قصة قصيرة
الخاسر
الرابح
ميسون أسدي
كنت بعيدة جدًا
عن هذا العالم الذي نبع من الفن التشكيلي. عالم تصميم الجرافيك
وتوابعه، إلى ان جاء اليوم وقررت إصدار أول كتاب لي وكان عبارة عن مجموعة قصصية. عندها
كنت مضطرة للاستعانة بمصمم للكتاب واعتقدت بأن التصميم يقتصر على الغلاف. أخبرني أحد
الاصدقاء ان الامر ليس بهذه السهولة وسيعرفني على صديق متخصص في هذا المجال وبارع
فيه. لم استوعب الأمر، لكنني أخذت بمشورته وذهبت إلى ذلك الصديق ويدعى شربل.
ذهبت إلى محل عمله
وما هو إلا عبارة عن غرفة متوسطة اقتطعها من بيته وجعلها مكان عمله. نظرت حولي فرأيت
اكوام من الكتب والأوراق والمنشورات والملصقات وما شابه. فوضى عارمة لم افهم كيف يتدبّر أمره مع كل
ما حوله. اكتشفت بعد ذلك عندما تعرّفت عليه أكثر، بأنه يعرف كل قطعة كبيرة أم
صغيرة داخل هذه الفوضى ويستطيع أن يخرجها بثانية، فالأمر على حدّ تعبيره فوضى
منظمة.
بدأ شربل يشرح
لي ما يقوم به لإخراج كتابي على أجمل وجه. بدءا من تصميم الغلاف، اللوحة، نوع الخط
وتوزيع الكلمات على الغلاف. توزيع الصفحات في الداخل. أظهر لي عدة نماذج، حتّى
اختار احداها.
عندها فقط أيقنت
بأن هذا الجزء من مراحل حلة اصدار الكتاب هو جزء هام جدًا، فسألته عن التكلفة فأخبرني
عن مبلغ معين لم أعرف إذا كان هذا كثير أم قليل. فيما بعد عرفت بأن العاملين في هذه المهنة يأخذون
مبلغًا أكثر بكثير فعزوت معاملته لي لأنني جئت عن طريق صديق مشترك.
بعد زيارتي
الاولى لهذا المصمم واستمتاعي
بحديثه عن هذا العالم من الابداع، اخذت بزيارته عدّة مرات بحجة الاطمئنان عن سير
العمل. كنت أهدف للاستماع والاضطلاع أكثر وأكثر وقد كان شربل على ثقافة واسعة جدًا
في عالم الفنون التشكيلية وثقافة عامّة كبيرة.
في لقاءنا الاخير
لاحظت ان لديه قالب عبارة عن برواز خشبي مضغوط في داخله كتابة حروف معدنية، سألته:
ما هذا؟
فقال لي: هذه
مقطوعة تذكارية قديمة احتفظ بها وهي عبارة عن طريقة الطباعة الأولى، حيث كانوا يطبعون الاحرف على قوالب من معدن
الرصاص ثمّ يقومون بدهنها بالحبر ويمدون عليها الورق الذي يريدون ان يطبعوا عليه
ويضغطونه فتخرج الاحرف على الورق.
-
تقصد مثل
الاختام المصنوعة من المطاط؟
-
صحيح، لكن
الاختام ثابتة... في عالم الصحافة مثلا، كانوا يضطرون إلى تغيير هذه الاحرف يوميًا
والاخبار لا يعاد نشرها مرّتين. سازيدك معلومة. هل سمعت باسم وكالات الانباء مثل "فرانس
برس"؟
-
نعم وهناك أسوشيتد
برس.
-
ماذا تعني
كلمة برس؟
-
اظن أنها صحافة؟
-
هل تجيدين الإنجليزية؟ لم اسالك ماذا تعني فرانس بريس بل بريس
لوحدها.
-
اه برس، تعني
ضغط.
- صحيح لأن
طباعة الصحف في الماضي كانت مثلما شرحت لك قبل قليل عن طريق الضغط حتى أنه بعد ذلك
ظهر للعالم نوع من المبدعين وخصوصا التشكيليين أطلقوا على أنفسهم الانطباعيين والتي
جاءت من نفس المصدر.
سعدت كثيرًا
بهذه المعلومات الجميلة والمثيرة وقد لاحظ شربل الأمر وأراد ان يبهرني أكثر وسألني:
-
هل تعريفين من
اين جاءت كلمة نيوز؟
-
هذه الكلمة واضحة تعني اخبار واعتقد ان مصدرها
نيو جديد.
فقال لي: لا، نيوز هي اختصار لأربعة كلمات كان الهدف
منها أن الذي يبث الاخبار لديه معلومات ومصادر من جميع انحاء العالم شرقا وغربا
وشمالا وجنوبا: North الشمال East الشرقWest الغرب South الجنوب.
بعد عدّة أحاديث
بيننا واضطلاعي على ما انجزه لي في كتابي من تصميمات رائعة وجميلة تبادر إلى ذهني
سؤال ملح، خصوصًا بعد أن عرفت أن التكلفة التي يأخذها المصممين الآخرون على هذا
العمل هي أكثر بكثير وقلت له مدعية بان هناك شخص سألني عن التكلفة لمثل هذا العمل
فاستغرب السؤال وقال:
-
انت تعرفين، سآخذ منه نفس التكلفة التي اخذتها
منك.
-
لا، لا، هو
ليس صديقي ولا أعرفه، هو مجرد شخص.
فقال لي: ما
الفرق؟ هذه هي تسعيرتي
فقلت له: هذا سعر قليل وأنا أعرف بأن الآخرون يتقاضون
سعر أعلى من ذلك بكثير، فكيف تقبل بذلك؟
فأجابني
بابتسامة: لديّ من
الاعمال الكثير ومن كثرتها لا أستطيع إنجازها، هل تعرفين لماذا؟
أومأت براسي: لا
فقال وهو يسكب
لي القهوة: سأروي لك هذه القصة... في حيّنا كان
هناك حلاقا ثرثار ويتبجح بأنّه الاذكى في كل صغيرة وكبيرة. في أحد المرّات كنت جالسًا على كرسي الحلاقة
وفجأة توقف عن عمله وقال لي "انظر ماذا سأفعل بهذا الولد الغبي، فهو يمر في كل
يوم من امام المحلقة وأفعل به نفس الشيء ويصرّ على غباءه" فاستغربت الامر ولم
يمهلني حتى نادى على الولد، ووضع في يده
اليمنى عشرة شواقل وفي يده اليسرى عشرون شاقل وقال للولد أيهما تختار اليمنى أم
اليسرى؟ فما كان من الولد إلا أن مدّ يده بسرعة للعشرة، أخذها وخرج. فضحك الحلاق
وقال لي "هل رأيت كم هو غبي هذا الولد. اختار العشرة بدل العشرين"... لم
يرق لي ما حدث للولد فهو مسكين وبائس ويستحق أكثر من ذلك فقرّرت بنفسي ان الحق به وأبيّن
له خطأه. وعندما استوقفته وبيّنت له الأمر،
قال لي وعلى وجهه ملامح بسمة خفيفة "يا أستاذ، أنا
أمر بدكان الحلاقة كل يوم، وكل يوم يعيد الحلاق فعلته هذه معي، وأنا أعرف جيدًا أن
العشرين أكبر من العشرة، ولكنني أعرف بأنّني إذا اخذت العشرين، لن يعيد فعلته معي
في اليوم التالي وستكون العشرين آخر مرّة وسأفقد العشرة التي اخذها كل يوم. نظرت للولد
وقلت له في بداية حديثك قلت لي يا استاذ في الحقيقة أنك انت الأستاذ...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق