لذا، أتوقع انحسار فنون «السيرة» و»السيرة الذاتية» مع تزايد الاعتماد الفردي والمؤسسي على الإنترنت، بدليل ظهور ما يطلق عليه بـ»السيرة الرقمية» Digital Biography، كما أطلق عليها في الولايات المتحدة الأميركية: فإذا توهَّمت بأنك بمفردك أمام الحاسوب وبمنأى عن الآخرين عندما تتعامل مع الإنترنت وتفتح الصفحات المتنوِّعة بحُريَّة، دون رقيب، فإنك ترتكب خطًا فادحًا، خصوصًا بعد أن مدَّت أجهزة المخابرات والاستخبارات الكبرى عيونها وأذرعها إلى كل مكان وعبر هذه الشبكة التي تمنحك الشعور الوهمي بأنك إنما تعمل وحدك فقط!
ودليل ذلك، هو أن أجهزة حفظ الأمن (كالشُّرطة والشُّرطة السرِّية) غالبًا ما تعمد إلى مراجعة سيرة الشخص المطلوب معرفته وإماطة اللثام عن عبراته وسكناته، وذلك من خلال فتح ملف سيرته الرقمية!
السيرة الرقمية تكشف اهتمامات المرء، ومنها الاهتمامات والهوايات الأكثر خصوصية وفردية، خصوصًا تلك التي لا يريد المرء كشفها للآخرين: فإذا ما كان ذلك الشخص مهتمًّا بالجريمة أو بالتجسُّس أو بالقضايا الإباحية، فإن سيرته الرقمية هي خير دليل وأقصر ممرٍّ لمعرفته وللكشف عن مستوراته وتوجُّهاته بدقة متناهية. لذا، لا تدخِّر الأجهزة الأمنية أعلاه جهدًا للوصول إلى كل ما من شأنه إماطة اللثام عن حقيقة الشخص الذي يُشكِّل «هدفًا» أمنيًّا أو سياسيًّا مهما كان بُعده الجغرافي، خصوصًا وأنه يتوهَّم بأنه يعمل بمفرده (دون علم أحد) وهو في غرفته أو بمكتبه الخاص. وهكذا، علينا أن نتذكر دائمًا بأن أجهزة الرصد والتنصُّت والاستشعار عن بُعد إنما هي لنا بالمرصاد دائمًا، خصوصًا عندما يأتي الأمر لمعرفة دقيقة عن «الهدف» الأمني أو الجرمي بدقة، علمًا أن الأجهزة المتخصصة أعلاه لا تدَّخر الجهد ولا المال لمعرفة كل شيء عنك حتى عندما تكون في الحمام، إذا ما تطلب الأمر ذلك: فاحذر!
أ.د. محمد الدعمي
كاتب وباحث أكاديمي عراقي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق