نصوص قصصة
بقلم : بلقيس الكبسي
(عشقُ المَوُت)
بدا تائهاً متخبطاً
ضاجراً من خيبات ألمت به، هارباً من صدمات أوجعته، متهاوي الخطى علَّه يجد متاهاتٍ
تحتويه، أو سراباً يتمرغ فيه، أو مأوى ينجيه من واقعه الشرس، فكان لقاءه الأول بها،
ريثما وقعت بين يديه بجسدها العاري، أرخت له كل مفاتنها إلا من رقيق يلفها؛ فكانت بداية
غوايته بها.
بعد أن
تفحصها ،مسح على طولها وقاس خصرها، وتمعن في تفاصيلها، حملتها أنامله المرتعشة
لترتمي بين شفتيه، تهدم وهو يرتشف أحشاءها، تهدج صوته مبحوحاً وهو يشهقها.
هكذا
بدأت قصة عشقه المجنون بها، لثمها حتى أدمنها ؛فأصبح لايستطيع لها فراقاً ليلاً أو
نهاراً، يثمل بتقبيلها، ويسلم لها جسده لتعبث به كيفما تشاء رغبتهُ الجموح.
استعرت
مشاكله الأسرية عندما أكتشفت الزوجة أنه يعشق أخرى حتى الجنون؛ لينفق ماله ووقته
وصحته عليها، سيما أن صحته العليلة لا تسمح بجنونه الصاخب معها.
وضعته
زوجته في خندق الاختيار وحاصرته بخيارين لا منجى بثالث لهما، إما هي أو تلك، لم
يكن مهيئاً لأي اختيار، ولم يكن يملك أي خيار، ولم يستطع اتخاذ أدنى قرار، كان قد
تهاوى في غياهب إدمانه بها، لم يستطع مقاومتها ففضلها على زوجته.تدخل الأهل
والأصدقاء؛ لثنيه عما يفعل بنفسه، وليرجع إلى جادة الصواب، إلا أنهم باءوا بالفشل؛
أمام إصراره وحبه الجنوني لها لم يستطع مقاومة اغراءها فقد تمكنت منه وأغوته،
وأوقعت به في شباكها.
بينما
ينفق جلّ ماله عليها ،كان يعلم أنها تخونه مع عُشّاق آخرين كثر وأنها تجمع حولها
العشاق من كل حدب وصوب، وكان يدرك أيضاً أن نهايته ستكون على يدها، وأنها قاتلته
لا محالة، لكن إدمانه لها جعله مسلوب العقل والإرادة، فلم يستطع بداً إلا الخضوع
لها والانقياد للذتها المخادعة،تهدم شبابه وشاخت صحته وحانت ساعته المحتومة.
جسده مرمي على أحد أسرّة المشفى، وهو ما زال
يلثمها، يضمها بأنامله، ويتأملها وهي تتلوى راقصة في فضائه الخانق كإفعوان يتهيأ لينقض على فريسته، وهو مستسلم لانقضاضها
برغبة وخضوع.
تصلبت شفتاه، زاغ بصره، انتفض صدره، أربد كل
جسمه وارتجف كممسوس بشيطان أرعن، بدأت روحة تنسل من جسده ببطء مميت؛ لتصعد مع
تصاعد رقصاتها اللولبية.
قبضتْ
كفه المرتعشة أطرافها، رفعها أمام عينيه الغائرتين، تأمل المكتوب على غلافها
الخارجي: " التدخين مضر بالصحة يؤدي إلى أمراض القلب والسرطان وتصلب
الشرايين". انطفأ بريق عينيه، وتهدم قلبه المريض بعشقها.
فتح
علبتها، تناول إحداها، حاول إشعالها، لكنه لم يستطع، سقطت يداه بلا حراك، سكن
جسده، وقدمت نبضاته استقالتها، عندها انتهت صلاحيته للحياة، فانتصبت منتشية تطوقها
سبابته ووسطاه معلنة انتصارها ورحيل عاشقها البليد.
(عَنِيدةٌ كَالّشمس)
سواي لن أكون، ولن
أتخذ أي وسيلة للعتاب، لن أتقدم إليك وداً، ولن أتقهقر عنك حزناً، لدي ما أحزن
عليه حتى الامتلاء، سأمحو خط الرجوع لبضع حنين. سأسكن الهدوء وألوذ بوحدتي وصمتي
وسكوني، سأقضي وقتي برفقة ذكرياتي الباذخة، وحلمي الغافي بساط قلبي، سألتحف صمتي
الوفير، وثمة أمنيات ساهرة ترقبني عبر الأفق.
الأفق
الشاسع واسع بي، يستضيف قلبي في رحابه، يهدهده ويدلل حناياه، يحنو عليه من قسوتك
وخذلانك وجبروتك، يهديني كل الأمنيات الجميلة والمشاكسات البريئة، أغفو في وداعة
السماء، بعد أن أرقي قلبي بتراتيل الصبر وعناد الشمس.
الشمس عنيدة مثلي، ولعلي تعلمت العناد منها، لا
أدري من منا علم الأخرى مهارات العناد، لكن ماهو مؤكد أنها استمدت وهجها من لظى
قلبي. كثيراً ما يشهد شروقها انبلاج الفجر في روحي، سطوعها شاهد على مراحل
احتراقي، وغروبها حاضر في مراسيم الإنطفاء. البكاء أصبح رفيقي، أمارسه كطفلة يتيمة
ينتابها القهر، أمارسه بصمت وعلانية، وبتواصل وانقطاع. قلبي النبي هو من علمني
البكاء، وهو صادق فيما علمني، شفاف ووفي، أخبرني أن أبكي. البكاء سمة الأنقياء،
ووسام القلوب المرهفة، همس لي بنبرة حكيمة: "الصخور القاسية لا تبكي البتة،
فأبكي واغتسلي بدمعك وطهري قلبك حتى يعانقه النقاء، فطوبى لمكلومين طهرهم
الوجع."
الوجع أحياناً مطهر جيد للقلب من فيروسات الحياة
وغطرستها، لذلك توسمت من وجعي خيراً، حزمت متاع حزني ودمعي والنقاء، وحملتهم معي
أينما حللت ورحلت وارتحلت، وصارت شيئاً ضرورياً مع كل رحيل يلازمني. مع كل
بعد يرافقني كظلي، كحقائبي، كخطواتي، كدليلي ومرشدي في طريقي،يحذرني من الوحوش
البشرية،من المنحدرات الشائكة والمنعطفات المباغتة.باغتتني منعطفات لم أكن أتوقعها.
وظللت وحيدة كطفلة فقدت أبويها في زحام خانق، في فوضى عارمة، في متاهات قفر موحش،
لكني لم أتوه ولم انتحب ولم تردد آهاتي صداها قهراً "أضاعوني وأي فتاً
أضاعوا.." تسندت عنادي وقوتي وإصراري ورباطة جأشي وواصلت طريق رشدي، تعثرت
قليلاً لكني لم أنحني، لم أسقط ولم أقدم أي تنازلات، عنادي كان رفيقي ومرشدي كشمسي
العنيدة.
نصوص نثرية (تحت الصفر بآهتين)
في الضيق العربي المهين أتنفس من ثقب إبرة ، أشهق الحياة
؛ فتلج رئتي في سم الخياط ، ويتدلى صوتي مثقوباً ، يقطر ما تيسّر من شدوِ أصابه
العطب ،لحظة خاطفة اخترقت قلبي بنصلها العاري ، ومازلتُ أحيك التعازي ، أخطُ حبر
الأمس المكسور، وصفحات منتهكة، أحبر آهاتها
بدم ارتوت به الأرصفة .
وحيدة أحدث عن وجعي خيال هذا الليل المماطل، وما زالت بي رغبة
لممارسة هواية البقاء حتى الرمق الأخير من الوجع ، فالخيط ما زال في أوله، والحياكة تثقب نفسها بنفسها، وتنزف
أناتها .
في هذا
المساء المتشرد كتشرّد الضحايا، وهم مجففون تأكلهم الأرصفة، تسرقهم أزقة الانتهاك
يولدون قرابين فداء من صلب الضياع بلا
ترائب، يبعثون من رحم الشقاء بلا مشيمة، بلا شهادات حسبان ، تتقاذفهم المسافات
اليابسة كمفرداتِ يائسة .
وفي غفلة من قلمي سجلت بوحي في الرمق الأخير من الحرف،
ادعيت الشعر وها هم الشعراء تبعثرهم الطرقات المشبعة بالوجع وانحناءات
الخذلان، بينما أصبح للعهر الفاجر مأوى
باذخ الدلال. لم تعد الأزمنة ولا الأمكنة كما ولدت من ذي قبل فلا الشتاء شتاؤنا ،ولا
الصيف صيفنا ، ومازلنا نتساقط كأوراق الخريف ، يعبث بنا ربيع مخادع ، وخفافيشه التي سخرت من تقليدنا الأعمى، لم نتقن غواية الفصول،
نسارع الخطى على عجل لنخفي حاضراً أعرج الخطوات ، لا تجدي معه الترميمات البائسة ،
تحاصرنا الاتجاهات المعاكسة والمنحدرات المباغتة ، تعاندنا حظوظنا القصوى بلا
جدوى.
كل المتهمون
أبرياء ، الفقر بريء من الجياع، والإرتهان بريء من الضياع والعقول الفارغة بريئة
من الشطط ، والخوف بريء من الإنتهاك، والانتهاك بريء من الدماء، والأبرياء أنفسهم
ليس لهم سوى الإدعاء . وهذا الوطن المكلوم وهو يودع كل يوم أفواجاً.. أفواجاً من
ساكنيه هو أيضاً بريء من الانتماء. فلا داعي لتقليد رقصة الإرباك الأخير ..
الأوراق المتساقطة في موسم خريفها تتقن كل الرقصات أكثر منا.. بينما نتقن الخنوع والصمت
والضياع.
***********
تراحيل
أصبح في الوقت متسعاً لكل شيء، لإعادة سرد الحكايات من أولها ، للعروض
المتكررة ، فثمة أشياء تستفز التكرار بحاجة ماسة لإعادتها من جديد ، فأي هراء ذاك
الذي كانت تهذي به، الأماكن تحتضن عشاقها؟ يا لها خيبة الاعتقاد ما أشد قسوتها ..
! ولن يبرأ جرح الخيبة إلا بغياب موجع يحرق نخاع الوجد. رفعت راية الانسحاب ، ودعت
حنين الأماكن ، جمعتْ ذكريات باذخة بالألم والأمل ، بقايا مواجيد قلب يتيم، حزن
قديم وحلم يزهو بحب جميل ،واستعدت للرحيل .
ترافقها حقائب
فاخرة بالوجد الموجع لوطن منهوب هو إرثها الباقي، وغادرت من ألمها الكبير إلى
وجعها الأكبر تاركة خلفها سطوراً ثكلى، حبراً من أنين، حروفاً يغشاها سهاد أليم ،وقلوباً
تضج بالحنين.
وقبل الرحيل نسجت مخطوطة قلب أليم، علها تكون
تعويذة شفاء مبرح للأوجاع المتناقضة. نحتت مطلعها بإيقونة صمت،وابتهلت ترتلها
بخشوع ما بين الشك واليقين وهمست: لمن يمضغون الألم بصمت ، كل الآلام مذاقها حاد
كموس شرس، ولا نملك سوى العض على شفاهنا بصمت، عندما تلتصق مخالبها بأرواحنا ،
وتغرز أنيابها فينا،لحظتها على صمت الألم
أن يلتهم كل الثرثرات الصاخبة.
ريثما
تلتقطنا عدسة الحياة بتصويب ثاقب، وما علينا سوى أن يختار كل منا مكانه بعناية
فائقة، تحدق فينا بينما نتخير مواضعنا، أين يضع كل منا نفسه ؟ أين يجب أن نكون؟
فداخل إطارها الكوني ستخلد الصورة !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق