أما في الشقيقة مصر، فإن المرء عندما يقرأ وهو طالب على المستوى الجامعي، فإن اللفظ يعني أنه “يذاكر”؛ أما على المستوى الأدنى في المراحل الدراسية، فإن اللفظ “يقرأ” يعني “يحفظ”.
للمرء أن يزعم، في سياق هذه المقالة، أن ألفاظا كـ”القراءة” وكالفعل “يقرأ” إنما تستجيب الآن إلى تحولات دلالية في اللغة العربية لتكتسب معاني جديدة أو مستحدثة، حسب الحالات والمناسبات والسياقات على نحو مشابه لمتغيرات لفظ “أدب” و”يؤدب” و”مأدبة”. ويبدو أن لفظ “القراءة” يستحيل من معنى لآخر حسب السياق والذوق والمتغيرات البيئية والثقافية، إذ صار المحاورون في الإعلام يسألون ضيوفهم أسئلة من نوع: “كيف تقرأ هذا الحدث؟” أو “كيف تقرأ هذه الشخصية؟” في اللهجة العراقية يقال إن فلانا هو بدرجة من الدهاء والحنكة والخبرة أنه “يقرأ الممحي”، أي أنه يقرأ ما هو ليس مكتوبا، على سبيل النبوءة بالقادم من الأحداث أو بالغاطس من النوايا. وبهذا، لا تكون عملية القراءة مشروطة بوجود كتابة بمعنى وجود رموز تشكل شفرة مكتوبة تتطلب فكًّا لها، وكما تعلمنا في المدارس. في العراق كذلك، يقال إن فلانا “يقرأ على الحسين”، بمعنى أنه يحترف قراءة البكائيات في “تعزيات” أو استذكارات استشهاد الإمام الحسين بن علي بن طالب (رضي الله عنهما) يوم الطف بكربلاء. وفي ذات السياق المستوحى من هذا المعنى، كنا في الجامعة عندما نشاهد طالبا يتهامس مع طالبة في سبعينيات القرن الماضي، نقول فيما بيننا، همسا وسخرية، إنه “يقرأ لها المقتل”، كناية عن عما عاناه الشاب المقصود في قصة حياته من الآلام استدرارا لعواطفها وحنانها. أما إذا ما حاول زميلنا هذا أن يقنعها بأنه مناسب لها، فيقال بأنه “يقرأ” لها “غزالة”، وهكذا دواليك.
وفي كل الأحوال، فإن المؤكد هو أن هذا العنوان يعد من العناوين الطريفة والمضحكة أحيانا، خاصة وأنه تدق في الألباب والخواطر أجراس تذكرنا بسنوات الدراسة في المرحلتين المتوسطة والثانوية، ثم في مرحلة الجامعة، عندما كنا نقول أنا ذاهب لأقرأ، بمعنى “أقرأ” الكتاب المنهجي، أي أستعد للامتحان. أما إذا سألت: “أين محمد؟” “إنه يقرأ”. أي أنه في غرفته يذاكر ويراجع المواد المطلوبة للامتحان. أما في الشقيقة مصر، فإن المرء عندما يقرأ وهو طالب على المستوى الجامعي، فإن اللفظ يعني أنه “يذاكر”؛ أما على المستوى الأدنى في المراحل الدراسية، فإن اللفظ “يقرأ” يعني “يحفظ”.
علما أنه لهذا الموضوع العديد من الأبعاد والهالات الدلالية المضحكة أحيانا، خاصة وأننا فيما سبق من عقود زمنية آنذاك لم نكن نعرف ولا ندرك المعنى الحقيقي للقراءة، لذا لم نكن نقرأ بالمعنى الصحيح، بل نهدر الوقت، بالمعنى الأصح. لقد تحولت قراءة الاستعداد للامتحانات في تلكم الأيام إلى “مناسبات” اجتماعية، حيث كنت أدعو أحد زملائي للسهر معا في غرفتي بدارنا حتى الصباح كي “نقرأ”. وفي هذه المناسبة وكعلامة تشجيع على القراءة من قبل الوالد أو الوالدة رحمهما الله، فإنهما كانا غالبا ما يهيئان وجبات الطعام الدسمة وصحون الفواكه لنا وهي تصعد (جاهزة للتناول وساخنة) إلى الأعالي، أي إلى الطابق الثاني (حيث غرفتي الخاصة) كي نلتهمها؛ ثم ما تلبث وأن تأتي المشروبات المنبهة المشجعة على القراءة كالشاي والقهوة. كانت ذات الحال تتكرر عندما يدعوني صديقي “للقراءة” إلى بيتهم، إذ تتكرر ذات العلامات المشجعة على القراءة في خضم منافسات الكرم الحاتمي، من الدجاج المشوي والأسماك واللحوم والرز وأنواع المرق…إلخ
وللقراءة، أحيانا، عادات تستدر الضحك وتستدعي التندر، إذ أذكر أني كنت أطلب من تلاميذي في جامعة بغداد (وبعدها في جامعات أخرى، عدن وإربد بل وحتى جامعة أريزونا) وبضمن مادة “الاستيعاب”، أي استيعاب النصوص بالإنجليزية، كنت أطلب منهم قراءة القطعة المطلوبة مقدما بصمت (قراءة صامتة)، إلا أن بعضا من الطالبات والطلاب كانوا يفشلون في الحفاظ على الصمت: فهم إما أن يقرأوا بصوت مسموع، أو أنهم يضغطون على رغبة “السماعي” بقوة، فيكتفون بالقراءة همسا!
من بين رفقاء الثانوية والجامعة كان لي صديق لا يفهم إذا ما قرأ وهو جالس أمام منضدة، وكانت أهم شروطه للالتحاق بنا، أي “بمآدب” القراءة الجماعية البيتية، أن توفر له مسافة كافية، كي “يشبرها” رواحا ومجيئا وهو يقرأ بصوت. هو لا يستوعب ما يقرأ إن لم يكن ماشيا. ثمة صديق آخر كان لا يفهم ما يقرأ إلا إذا كان وضعه أفقيا؛ أي أنه لا يفهم ما يقرأ إلا إذا كان ممتدا على سرير، على عكس أشخاص آخرين كانوا لا بد وأن يبقوا على وضع عمودي للقراءة في مقاهي القراءة البغدادية الرائعة، كالمقهى “البرازيلي” في شارع الرشيد ومقهى “الجامعة” في الكاظمية، تلك المدينة الدينية التي خرّجت الفطاحل من العلماء والكتّاب والشعراء، ابتداءً من علي الوردي وحسين محفوظ وطه باقر وانتهاءً بالشاعر مظفر النواب، من بين سواهم من عقول ذكية أخرى. أما بالنسبة للبنات، فإن قصتهم مع القراءة، قصة أخرى، إذ أنهن لم يكن يتمكن من القراءة بدون جهاز الراديو أو المسجل إلى جانبهن، للاستمتاع بصوت عبدالحليم حافظ أو فريد الأطرش، من بين آخرين، لهذا الغرض، علما أن الصراع بين العملاقين أعلاه كان على أشده في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، ولله في خلقه شؤون.
كان لدينا من الأصدقاء القادرين على القراءة بسرعة فائقة، ليس بالمعنى التقني لهذا النوع من القراءة الذي اشتهر به الرئيس الأميركي السابق “جون كنيدي” الذي كان قادرا (كما يشاع) على “المسح البصري” للصفحات بسرعة مذهلة كي يفهم الكتاب أو الموضوع الماثل أمام عينيه على نحو فوري. أما بالنسبة للطلاب المواظبين، فإنهم غالبا ما كانوا يكتفون بقراءة “جدول المحتويات” من كل كتاب، لأنهم لم يكونوا بحاجة لسواه للتذكير أو للاستذكار كي تنطلق سلسلات أفكارهم لتتحرر على دفاتر الامتحان بشكل تلقائي لا يقبل الشك.
إن ما كنا لا ندركه هو أن القراءة الحقة، أي المفيدة، لا يمكن أن تقاس بالسرعة، أي بالزمن المطلوب لقراءة نص من عشر صفحات أو عشرين صفحة، على سبيل المثال، وإنما هي القراءة المترافقة مع الفهم، الفهم الذي يمتد، وشيجةً بين النص المطبوع والحرف المكتوب من ناحية، وبين العقل المتعطش للمعرفة وللاستزادة، من الناحية الثانية. لذا تكون هذه هي التقنية المثلى للقراءة المفيدة أو المجدية على نحو التفاعل الحواري بين عقل القارئ وعقل المؤلف أو الكاتب.
وفي كل الأحوال، فإن المؤكد هو أن هذا العنوان يعد من العناوين الطريفة والمضحكة أحيانا، خاصة وأنه تدق في الألباب والخواطر أجراس تذكرنا بسنوات الدراسة في المرحلتين المتوسطة والثانوية، ثم في مرحلة الجامعة، عندما كنا نقول أنا ذاهب لأقرأ، بمعنى “أقرأ” الكتاب المنهجي، أي أستعد للامتحان. أما إذا سألت: “أين محمد؟” “إنه يقرأ”. أي أنه في غرفته يذاكر ويراجع المواد المطلوبة للامتحان. أما في الشقيقة مصر، فإن المرء عندما يقرأ وهو طالب على المستوى الجامعي، فإن اللفظ يعني أنه “يذاكر”؛ أما على المستوى الأدنى في المراحل الدراسية، فإن اللفظ “يقرأ” يعني “يحفظ”.
علما أنه لهذا الموضوع العديد من الأبعاد والهالات الدلالية المضحكة أحيانا، خاصة وأننا فيما سبق من عقود زمنية آنذاك لم نكن نعرف ولا ندرك المعنى الحقيقي للقراءة، لذا لم نكن نقرأ بالمعنى الصحيح، بل نهدر الوقت، بالمعنى الأصح. لقد تحولت قراءة الاستعداد للامتحانات في تلكم الأيام إلى “مناسبات” اجتماعية، حيث كنت أدعو أحد زملائي للسهر معا في غرفتي بدارنا حتى الصباح كي “نقرأ”. وفي هذه المناسبة وكعلامة تشجيع على القراءة من قبل الوالد أو الوالدة رحمهما الله، فإنهما كانا غالبا ما يهيئان وجبات الطعام الدسمة وصحون الفواكه لنا وهي تصعد (جاهزة للتناول وساخنة) إلى الأعالي، أي إلى الطابق الثاني (حيث غرفتي الخاصة) كي نلتهمها؛ ثم ما تلبث وأن تأتي المشروبات المنبهة المشجعة على القراءة كالشاي والقهوة. كانت ذات الحال تتكرر عندما يدعوني صديقي “للقراءة” إلى بيتهم، إذ تتكرر ذات العلامات المشجعة على القراءة في خضم منافسات الكرم الحاتمي، من الدجاج المشوي والأسماك واللحوم والرز وأنواع المرق…إلخ
وللقراءة، أحيانا، عادات تستدر الضحك وتستدعي التندر، إذ أذكر أني كنت أطلب من تلاميذي في جامعة بغداد (وبعدها في جامعات أخرى، عدن وإربد بل وحتى جامعة أريزونا) وبضمن مادة “الاستيعاب”، أي استيعاب النصوص بالإنجليزية، كنت أطلب منهم قراءة القطعة المطلوبة مقدما بصمت (قراءة صامتة)، إلا أن بعضا من الطالبات والطلاب كانوا يفشلون في الحفاظ على الصمت: فهم إما أن يقرأوا بصوت مسموع، أو أنهم يضغطون على رغبة “السماعي” بقوة، فيكتفون بالقراءة همسا!
من بين رفقاء الثانوية والجامعة كان لي صديق لا يفهم إذا ما قرأ وهو جالس أمام منضدة، وكانت أهم شروطه للالتحاق بنا، أي “بمآدب” القراءة الجماعية البيتية، أن توفر له مسافة كافية، كي “يشبرها” رواحا ومجيئا وهو يقرأ بصوت. هو لا يستوعب ما يقرأ إن لم يكن ماشيا. ثمة صديق آخر كان لا يفهم ما يقرأ إلا إذا كان وضعه أفقيا؛ أي أنه لا يفهم ما يقرأ إلا إذا كان ممتدا على سرير، على عكس أشخاص آخرين كانوا لا بد وأن يبقوا على وضع عمودي للقراءة في مقاهي القراءة البغدادية الرائعة، كالمقهى “البرازيلي” في شارع الرشيد ومقهى “الجامعة” في الكاظمية، تلك المدينة الدينية التي خرّجت الفطاحل من العلماء والكتّاب والشعراء، ابتداءً من علي الوردي وحسين محفوظ وطه باقر وانتهاءً بالشاعر مظفر النواب، من بين سواهم من عقول ذكية أخرى. أما بالنسبة للبنات، فإن قصتهم مع القراءة، قصة أخرى، إذ أنهن لم يكن يتمكن من القراءة بدون جهاز الراديو أو المسجل إلى جانبهن، للاستمتاع بصوت عبدالحليم حافظ أو فريد الأطرش، من بين آخرين، لهذا الغرض، علما أن الصراع بين العملاقين أعلاه كان على أشده في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، ولله في خلقه شؤون.
كان لدينا من الأصدقاء القادرين على القراءة بسرعة فائقة، ليس بالمعنى التقني لهذا النوع من القراءة الذي اشتهر به الرئيس الأميركي السابق “جون كنيدي” الذي كان قادرا (كما يشاع) على “المسح البصري” للصفحات بسرعة مذهلة كي يفهم الكتاب أو الموضوع الماثل أمام عينيه على نحو فوري. أما بالنسبة للطلاب المواظبين، فإنهم غالبا ما كانوا يكتفون بقراءة “جدول المحتويات” من كل كتاب، لأنهم لم يكونوا بحاجة لسواه للتذكير أو للاستذكار كي تنطلق سلسلات أفكارهم لتتحرر على دفاتر الامتحان بشكل تلقائي لا يقبل الشك.
إن ما كنا لا ندركه هو أن القراءة الحقة، أي المفيدة، لا يمكن أن تقاس بالسرعة، أي بالزمن المطلوب لقراءة نص من عشر صفحات أو عشرين صفحة، على سبيل المثال، وإنما هي القراءة المترافقة مع الفهم، الفهم الذي يمتد، وشيجةً بين النص المطبوع والحرف المكتوب من ناحية، وبين العقل المتعطش للمعرفة وللاستزادة، من الناحية الثانية. لذا تكون هذه هي التقنية المثلى للقراءة المفيدة أو المجدية على نحو التفاعل الحواري بين عقل القارئ وعقل المؤلف أو الكاتب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق