ربما كان أهم نقد وجهه غير المنتمين للثقافة العربية الإسلامية المعاصرة، من العالم الغربي خاصة، يكمن في ملاحظة الافتتان المفرط بالاجترار عند العرب والمسلمين عامة. لا أقصد بلفظ “اجترار” التكرار مجردًا فقط، وإنما أقصد كذلك إحالة الماضي إلى هاجس أو وسواس، بل وحتى إلى استثمار تربوي وثقافي لا يبرأ منه المرء أو المجتمع، درجة تحويله إلى “ثقافة شائعة” تحاصرك عبر الإعلام والصحف ووسائل التواصل الاجتماعي، زيادة على تمثله عادات وطرائق تفكير معيقة للتقدم.
هذه، بكل دقة، واحدة من أهم معضلات (إن لم أقل علَّات) ثقافتنا العربية الإسلامية الآن: تفتح التلفاز، فتشاهد مسلسلة عربية عن أمجاد العرب في العصر الوسيط، وتدير محرك السيارة، فيبث المذياع أنشودة “أمجاد يا عرب، أمجاد” (التي غدت مدعاة للسخرية حتى في الشقيقة مصر)، ناهيك عما تتمخض عنه جميع وسائل الاتصال الجماهيري وآنية التواصل الاجتماعي على تنوعاتها. بيد أن علينا الاعتراف بأن الخطر الأقوى يكمن في المناهج الدراسية التي تربي وتنشئ أجيالًا مدمنة على ذات العادات الارتجاعية (إن لم نقل الرجوعية) في التفكير وفي التعامل مع الأشياء والقضايا الحساسة، الأمر الذي يروضها، حد “التدجين”، بغض النظر عن التدريب على الإبداع وعن الإتيان بالأصيل والمبتكر الجديد، تحت شعارات من نوع: “فكّر على نحو ملحمي”!
بل، إني لأستشعر خطورة هذه الحال التي لا بد وأن تقود إلى الركود وإلى الإبقاء على “نزعة الاستهلاك” الكسولة التي ميزت الشعوب الميسورة في العالم العربي منذ زمن طويل، نظرًا لتوكيد البعض من أولي الأمر على نزعة “الرجوعية إلى الماضي في الثقافة الشائعة وفي أنظمة التعليم والتنشئة، محاكاة لمثيلاتها في الدول العربية التي تعاني من ذات المعضلات العصية على التفكيك وعلى الحل. وتحت مظلة “الأصالة” تمكنا من دفع الأجيال إلى دواخل زنزانة الماضي الذي لا يقود سحره إلا إلى التراجع والنكوص وقتل روح الابتكار والإبداع.
وإذا ما كان أصحاب الحل والعقد متشبثين بتبرير “الأصالة” ومصرين على إحالتها إلى أداة كبح وإعاقة، فإن عليهم أن يفقهوا جيدًا، بأنه حتى الأصالة، مفهومًا غيميًّا، إنما لم يعد كما “نجتره” ونتعامل معه الآن بعد السنوات الأخيرة عامة، خاصة عندما ننفق الأموال الطائلة على إحالة ثقافتنا ومناهج التعليم والتنشئة في مدارسنا إلى مجموعة “حكايات وحكم مفيدة”. لم يعد الأمر كذلك في معنى ودلالات الأصالة، إذ إنها تعني اليوم كل ما هو معاكس لاجترار الماضي على نحو حكايات وحكم مفيدة. إن الأصالة لم تعد تكرار قصص حاتم الطائي أو عنترة العبسي من بين سواهما ممن اعتدنا على “اجترار” قصصهم نصف الأسطورية ونصف الواقعية. إنها تكمن في القدرة على الإتيان بالمبتكر والجديد الذي لم يسبقك إليه أحد.
بيد أن الأخطر من هذا كله هو إحالة التقليد الروحي السائد إلى مجرد حكايات مفيدة، باعتبار دروسها الأخلاقية وشواخصها التي تستحق المحاكاة فقط، بديلًا عن أهمية التقليد نظامًا روحيًّا بمعنى الكلمة. والحق، فإن هذا هو واحد من أهم ما حاولت التنويه إليه في كتابي الموسوم (تخنيث الغرب)، إذ قادتني مناقشة ذلك إلى حقيقة مؤلمة، ولكن مفيدة للغاية بالنسبة للمهتمين، إذ تؤشر إلى نزعة الاجترار التي اتخذها العقل العربي صفة له وطريقة له في التفكير، باعتبارها النزعة المسؤولة رقم واحد عن تشكيل القاعدة الأساس التي ابتنى الإرهاب عليها كيانه الفكري واستخلص منها أدواته وطرائقه إلى أذهان الصبية والشبيبة، بعد أن أحال القصص التاريخي، ليس فقط إلى نظام ديني، وإنما إلى برنامج مستقبلي، بدعوى استيحاء الحاضر من الماضي، على سبيل استشراف المستقبل. هكذا تم إفراغ التاريخ من دلالاته الحقة والحقيقة، خاصة عندما فرضناه على الأجيال الصاعدة داءً وراثيًّا، تستلمه هذه الأجيال دون إرادتها، للأسف.
علينا في حقلي التربية والتعليم، وفي الإعلام كذلك تشجيع نزعة الإبداع والابتكار، بديلين عن نزعة الرجوعية المتعامية إلى ماضٍ تم استهلاك ما يمكن أن يقدم لنا من إيحاء، بسبب التكرار والاجترار العقيمين.
أ.د. محمد الدعمي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق