بيت تبنيه ولا تسكن فيه
ترجمة ب. حسيب شحادة
جامعة هلسنكي
في ما يلي ترجمة عربية لهذه القصّة بالعبرية،
رواها صبري بن إسماعيل السراوي الدنفي (١٨٩٨-١٩٩٤)
بالعربية على مسامع بنياميم راضي صدقة (١٩٤٤-)
الذي بدوره نقلها إلى العبرية ونقّحها ونشرها في الدورية السامرية أ. ب. - أخبار السامرة، العددين ١٢٢٦-١٢٢٧، ١٥
كانون ثان ٢٠١٧، ص. ٦٥ -٦٧.
هذه الدورية التي تصدر مرّتين شهريًا في مدينة حولون جنوبي تل أبيب، فريدة من نوعها: إنّها تستعمل أربع لغات بأربعة خطوط أو أربع أبجديات: العبرية أو الآرامية السامرية بالخطّ العبري القديم، المعروف اليوم بالحروف السامرية؛ العبرية الحديثة بالخطّ المربّع/الأشوري، أي الخطّ العبري الحالي؛ العربية بالرسم العربي؛ الإنجليزية (أحيانًا لغات أخرى مثل الفرنسية والألمانية والإسبانية) بالخطّ اللاتيني.
بدأت هذه الدورية السامرية في الصدور منذ أواخر العام ١٩٦٩، وما زالت تصدر بانتظام، تُوزَّع مجّانًا على كلّ بيت سامري في نابلس وحولون، قرابة الثمانمائة سامري، وهناك مشتركون فيها من الباحثين والمهتمّين بالدراسات السامرية، في شتّى دول العالم. هذه الدورية، ما زالت حيّة تُرزق، لا بل وتتطوّر بفضل إخلاص ومثابرة الشقيقين، بنياميم (الأمين) ويفت (حسني)، نجْلي المرحوم راضي صدقة الصباحي (٢٢ شباط ١٩٢٢ــ٢٠ كانون الثاني ١٩٩٠).
حياة صعبة في يافا
إجلس
لأحكي لك عن أحد الأحداث التي حصلت في حياة هذه الطائفة، في أربعينات القرن
العشرين. في تلك السنوات، وقبلها وبعدها، سكن عشرات من أبناء الطائفة في يافا
القديمة، في الأساس من أجل الرزق والعيش بكرامة. ونحن، بنو عائلة السراوي أيضًا،
سكنّا في يافا بجانب مستشفى دونولو. اشتغلنا في النجارة والخياطة، وأكلنا بعرق
جبيننا. إذا كنّا نتقاضى قرشًا واحدا في اليوم، أو خمسة في الأسبوع، فرحنا وكأنّ
رحمة الله حلّت بنا. أمّا إذا ما وفّقنا في توفير ليرة واحدة كاملة ”مدحوشة“
جيّدًا في زاوية الجارور، أو في مكان مخفيّ على جسمنا، كنا أسعد الناس في المدينة.
إنّي لا أبالغ، لا سمح الله، هكذا كان وضعنا في تلك السنين. ليس كما هو الوضع
الآن، حيث في جيب كل واحد منّا محفظة (جزدان) مليئة بالشواقل، والواحد يأكل ويشرب
كيفما يودّ. آنذاك، قمنا بأعمال شاقّة جدًّا، مقابل كل قرش حصلنا عليه، شكرنا الله
مرّتين يوميًّا على خيراته ولطفه إزاءنا.
أقمنا
علاقات صداقة وطيدة مع الكثيرين من عرب يافا القديمة. برز فيهم شخص اسمه أبو يوسف البري، عرفه الكبير
والصغير، بسبب قيامه بأعمال نذلة، حالته كانت بعيدة كل البعد عن حالتنا.
أبو يوسف البخيل الطمّيع
أبو
يوسف كان ثريًّا كبيرًا، مئات وآلاف العملات الورقية كانت منضّدة في جوارير خزائن
منزله. تلك العملات كانت مكتظة في الجارور، بحيث يصعُب إغلاقه بيد واحدة، ولا بدّ
من اليد الثانية. كلّ هذا المال، جمعه أبو يوسف من إدارة بيوت دعارة (كراخانات) عديدة، كان يتسلّم أُجرة
شهرية منها، وأبو يوسف عُرف ببخله الشديد وبطمعه. سكنّا عشرين سنة كاملة في يافا،
ورأينا كيف كان هذا الرجل الشرّير، أبو يوسف البري، يجمع رأس المال. وسُرعان ما اشترى البيتين
اللذين كان قد استأجرهما بأجرة شهرية، وحوّلهما لفندقين معروفين بسمعتهما السيئة. اغتنى
الرجل كثيرًا، إلى أن أتاه ذات يوم شيوخ يافا وطلبوا منه التوقّف عن إدارة بيوت
الدعارة، وترك طريق السوء، إذ عليه أن يعلم أنّ هناك دنيا وآخرة، وهذا هو الوقت
المناسب للعودة إلى خالقه بكل قلبه ونفسه، من أجل حياته. ها قد كدّس ثروة كبيرة
لحدّ يسمح له بإيقاف أعماله السيّئة، وإكمال باقي سني حياته بشكل محترم، كشيخ عزيز
في المجتمع.
أبو
يوسف البري سمع أقوالهم، ولم يكتف بالضحك والسخرية منهم بسبب سخافاتهم التي أسمعوه
إياها، على حدّ قوله، بل أسرع وأخرج بِطاقة من جيبه وكتب عليها: أنا أبو يوسف
البري بُنْدوق ابن بُنْدوق. دسّ البطاقة بين أكوام العملات الورقية، على مرأى أعين
شيوخ المدينة المفعمة بالدهشة والغضب، وبعد ذلك أضاف قائلًا: ها هي بطاقة الورق
التي كتبت عليها ما كتبت مدحوشة بين عملات الورق التي لا تُحصى، وكما أنّ عين
الإنسان لا تستطيع العثور عليها بينها، كذلك لا يتمكّن أحد أن يدرك أنّني أبو يوسف
البري كما أنا، وعليه فأنا لن أتغيّر. حزِن شيوخ المدينة جدًّا عند سماعهم هذه
الأقوال. خرجوا من بيت البري قانطين خجولين، ومنذ ذلك الحين تركوه يفعل ما يشاء.
القصر الأفخم في يافا
عزم
أبو يوسف البري ذات يوم على تشييد قصر له ولأبناء بيته، ليسكنوا فيه، كي يعلم
الجميع مدى ثرائه. ليس هذا فحسب بل خرج
وأعلن عند بوّابات المدينة ولدى كلّ من ينوي السماع، أنّه لم يُبن مثل هذا
القصر الفخم قيد الإنشاء. استأجر البري خيرة مهندسي تل أبيب الذين عملوا بكدّ
شهورًا كثيرة في تصميم بناء القصر. عندما وُضع حجر الزاوية في القصر المزمع
إنشاؤه، ذبح البري أغنامًا وكباشًا وأثبت لأهل مدينته أنه يستطيع أحيانًا أن يكون
كريما.
استغرق
تشييد القصر سنتين، وبرز قصر فخم في قلب يافا، مبني كله من الرخام وفيه منحوتات
راقية ومعقّدة. وحول القصر حديقة خضراء، بستان فاكهة من كل الأصناف، تماثيل
ونوافير كلّلت مسارات الحديقة، وأُثبتت مقاعد خشبية وأخرى رخامية بين أشجار النخيل
الباسقة.
مرّت
سنتان، فأعلن أبو يوسف أنّّه في خلال شهر من صيف ١٩٤٧
سيدخل هو وأسرتُه القصر الجديد، ووعد بأنّ ذلك سيكون مقرونًا باحتفال تدشين فاخر،
وسيدعو آلاف أصدقائه ومعارفه. كما وذكر أنّ كلّ ما ادّخره من مال طيلةَ حياته قد
استثمره في بناء القصر، ولم يبق في جيبه سوى بضع مئات من الليرات فقط. لا، لا
تشفَق عليه، بضع مئات من الليرات وحتّى بدون القصر، أبقته بين أثرياء المدينة.
مصير ”بُنْدوق ابن بُنْدوق“
ولكن
ما خفي آونتها عن عين الإنسان، لم يخف عن عين الله. وبالضبط في نفس الأسبوع الذي
نوى أبو يوسف البري الدخول إلى قصره، اندلعت المناوشات الشديدة بين يهود يافا
وعربها. مواطنون كثيرون في يافا، حزموا أمتعتهم القليلة وبدأوا بالهروب بشكل جماعي
من المدينة خوفًا من اليهود، الذين قصدوا احتلال يافا. خافوا بأنّ كل ما هدّدوا
بالقيام به باليهود، سيكون من نصيبهم، ولذلك هبّوا وغادروا بيوتهم وفرّوا، منهم
إلى شرقي الأردن ومنهم إلى نابلس أو بقية مدن شمال الضفة الغربية.
أُصيب
أبو يوسف البري بفزع شديد. كلّ الأمتعة
التي أراد نقلها إلى القصر، كانت محمّلة على الحمير فساقها في اتّجاه نابلس. عندما
مرّ بجوار القصر، انفجر بالبكاء وارتجف كل جسمه: آه دعوني أدخل لبضع دقائق فقط،
لفتح القصر بالمفتاح الجديد، لمس جدرانه ولو مرّة واحدة. أبناؤه وزوجته رفضوا ذلك،
حثّوه في الإسراع والهرب لئلا يصفّيهم اليهود القادمون لاحتلال المدينة. لم ينقطع
بكاؤه الذي هزّ كلّ جسمه. عندها علِم البري أنّ هذا هو أجر من لم يستمع لنصيحة
الشيوخ، ولم يهجر طريق الشرّ في إدارة بيوت الدعارة الممنوعة بأمر دينه. حقًّا،
كان بُنْدوق ابن بُنْدوق!
وقد
صدق ما جاء في التوراة ”ويبني بيتًا فلا يُقيم فيه“ [سفر التثنية ٢٨:
٣٠]
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق