الميّت حي!!
بقلم: ميسون أسدي
فتحي
العُمر
رغم طول سنين عمره، إلا أن روحه خرجت من مصهر التجارب الحياتية
قوية وسالمة ومتجددة، هو الانسان الذي لم تعركه الحياة لتصنع منه عجوزا متقدمًا في
السن، فغلب الدهر في عراكه. واسى الناس في احزانهم وأكدارهم، ترتاح اليه ويرتاح اليك-
انه الحاج أبو عمر الفتحي، من ختايرة قرية دير الأسد المعروفين بطيبة قلبه ومساعدة
الغير وحبه للضحك والنكات، فالابتسامة لا تفارق شفتيه.. طويل القامة مربوع ذو كتفين
عريضين، يلبس الزي العربي التقليدي، حطة وعقالا وقمبازا وحزاما جلديا بني يتوسط خصره..
كان النهار من نهارات الربيع الساحرة بصفائها ودفئها وتغريد
عصافيرها، حين علا صوت المؤذن في القرية ينعى فتحي العمر المرح. حزن اهل البلدة قاطبة
لموت العجوز.
خالد الفتحي، هو أكبر احفاد الحاج أبو عمر، وكان في ميعة
الشباب وفي بحبوحة من العيش والعافية، ومعروفا بمزاجه المرح كجده، حاضر النكتة، مرهف
الحس، كريما الى حد التبذير والبعض يقول بأن به ضرب من البلاهة وحب النكتة.
يوم وفاة أبو عمر الفتحي، لم يكن في القرية بعد سيارة لدفن
الموتى، فكانت كل عائلة تأخذ سيّارة خاصّة لجلب جثّة الميت من المستشفى بعد إجراء التشريح
الطبي للجثة. وطلبت العائلة من خالد الفتحي أن يذهب إلى مستشفى "ملبن" في
نهاريا بسيّارته ويحضر جثّة جدّه المتوفى للبيت..
ركب خالد سيّارته وتوجه إلى مستشفى "ملبن"، وعندما
وصل إلى هناك، اكتشف أن قامة جده أكبر من مساحة الحقيبة الخلفية للسيارة، وأن سيارته
صغيرة الحجم لا يستطيع تمديد جثّة جدّه فيها من الخلف.. حاول تمديدها في عدة أشكال
وعدة اتجاهات ولكن محاولاته باءت بالفشل الذريع.
اكتسحته موجة من التفكير العميق التي دغدغت مشاعره، وعلى
الفور حمل خالد جثّة جدّه وأجلسها على المقعد بقربه وربطها بحزام الأمان، ووضع على
رأس الجثّة حطّته البيضاء وعقاله الأسود، ثم خلع نظّارته السوداء ووضعها على عيني جدّه.
سار خالد بسيارته وجثّة جدّه بقربه وكأن جدّه حي يرزق ومستمتع
بجلسته وينعم من نعم الطبيعة ببحبوحة من الشمس والهواء الدافئ المنعش، وطوال الطريق
من مستشفى "ملبن" في نهاريا وحتى قرية دير الأسد، لم ينتبه أحد بأن من يجلس
بجانب السائق هو مجرد جثّة لا حياة فيها، وقد كانت قمة المهزلة بأن أحد المارّة في
مدخل القرية طرح على الجثة السلام، معتقدا أنها حيّة ترزق.
وصلت السيارة إلى بيت الجد، حيث عج بالناس، عشرات المشيعين
من العائلة والجيران وأهل البلد ينتظرون قدوم الجثة، النسوة متشحات بالسواد في الجناح
المخصص لهن، يجلسن على شكل دائرة، حيث توضع جثة الفقيد وسط هذه الدائرة ويأخذن بالندب
والنواح. أما الرجال ففي جناح آخر وهم يجلسون بشكل دائري ومؤخرًا بدأوا بالجلوس على
شكل صفوف في مواجهة صف أهل الفقيد، حيث يدخل المعزون يأخذون بخاطر أهل الفقيد ويجلسون
لفترة وجيزة بين المعزين، ثم يغادرون بيت العزاء، وهذا ليتركوا مكانًا للمعزين الذين
يأتون من بعدهم..
دخل خالد بسيارته إلى ساحة البيت وسط الحشد، أمام جميع المشيعين،
إلى أن وصل حيث تجلس النساء، فاعترت الجميع الدهشة وصرخ الاطفال وصرخت النساء: جدي
أبو عمر حي يرزق! أبو عمر حي يرزق!
ولكم حزّ في نفس خالد ان يُخيب ظنونهم، فترجّل من سيارته
وأخذ النظارة السوداء عن عيون جدّه وأزاح حطته وعقاله وحمل الجثّة، ثم مدّدها على الحمالة
الموجودة بين النساء لاستقباله.. عندها فقط، استوعب الحضور أن خالد الفتحي لم تكن لديه
وسيلة لنقل الميت سوى هذه الوسيلة ممّا أدخل البهجة عليهم بعد أن ذرفت عيونهم دمعًا
لفراق الحاج عمر الفتحي قبل وصول الجثة. بعد ذلك تحول حديث المشيعين فيما بينهم عن
هذه الحادثة الطريفة، وابناء عائلة المرحوم رغم حاجتهم إلى كلمات المؤاساة والتشجيع
ضحكوا في عبهم وبعضهم لم ينجح بإخفاء الضحك فضحك على الملأ، ومن الجدير ذكره، انه لم
يظهر بين المشيعين واحد عاتبه أو جافاه لما فعل مع المرحوم جدّه، وبقي الناس يتحدثون
ويتندرون بهذه الحادثة لسنوات عديدة، وما زالت حتى يومنا هذه تُقص على الصغار والكبار
وكأنها ضربٌ من التفريج عن النفس.
يا لسحر وسعد من أضحك الناس في حياته وفي مماته!!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق