أ.د. محمد الدعمي
” إن محنة العراق اليوم، كما أراها من منظور تاريخي ومعاصر مركب، إنما تنبع من إشكالية تقديم قيادات الكتل السكانية العراقية الأساس (كرد وسنة وشيعة) الولاءات الفرعية أو الثانوية على الولاء الأساسي، اي الولاء للوطن، بمعنى الولاء لمفهوم “عراقية جميع العراقيين”، دون تمييز أو إقلال من شأن كتلة معينة.”
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ترتكن إحدى فرضيات بحثي الجديد الأساسي، الموسوم بـــ(وطن بلا وطنية) والمأمول نشره، كتاباً، العام الجاري، إلى أن الوطن لا يمكن أن يكون مجرد قطعة من الأرض، ذات حدود سيادية معروفة دولياً، تحيا عليها مجموعة من البشر الذين يشتركون ببضع صفات. هذا ما لقنتنا إياه كتب (التربية الوطنية) من المرحلة الابتدائية حتى التخرج من الجامعة، عبر دروس (التربية الوطنية والقومية التقدمية) التي كان تلاميذ الجامعات يتهربون من حضورها، أو يعدونها دروساً “لقضاء الوقت والراحة والغزل، أحياناً”!
والحق اقول، فقد استنبطت فرضيتي أعلاه من حال العراق الآن، ومن المخاطر الجمة التي تحيق بوجوده وبوحدته مذ وطأت “بسطالات” الاحتلال أراضيه سنة 2003 وما تلاها من سنين، للأسف.
إن محنة العراق اليوم، كما أراها من منظور تاريخي ومعاصر مركب، إنما تنبع من إشكالية تقديم قيادات الكتل السكانية العراقية الأساس (كرد وسنة وشيعة) الولاءات الفرعية أو الثانوية على الولاء الأساسي، اي الولاء للوطن، بمعنى الولاء لمفهوم “عراقية جميع العراقيين”، دون تمييز أو إقلال من شأن كتلة معينة. ويمكن تتبع بواعث مخاطر هذه المحنة إلى اليوم الذي أعلن فيه “السفير بول بريمر” تشكيل ما أطلق عليه عنوان “مجلس الحكم”، وقيامه بتعيين أعضاء لهذا المجلس الذي خدم هو رئيساً له، سلطة مؤقتة أو انتقالية.
في هذه اللحظة التاريخية من حكاية الدولة العراقية التي كانت قد بلغت ثمانين ونيف من السنين آنذاك، استيقظ العراقيون ليكتشفوا أنهم شيعة وسنة وكرد وأقليات اثنية ودينية أخرى، قبل أن يكونوا عراقيين فقط. بهذه العملية التفكيكية (التي أوحت بها قوى المعارضة خارج العراق للإدارة الأميركية) تمت إزالة الولاء للوطن الشامل والأشمل، لاستبداله بعدة “ولاءات” صغيرة ومحدودة، بل ومجهرية أحياناً، للأسف. لذا امتد الشرخ الذي أصاب جسد العراق لحظة توظيف الولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين والدوليين “القوة المفرطة” لكسر شكيمة العراق ولاستئصال شأفة قواته المسلحة التي خدمت رمزاً للوحدة الوطنية وللقضايا القومية من لحظة تأسيس “فوج موسى الكاظم”، نواةً للجيش العراقي الباسل، 1921.
لقد قاد مجلس الحكم السييء الصيت الى الخلل أعلاه وكرسه، خاصة بعد أن راحت الولاءات الصغيرة ذاتها تتفتح على ولاءات أصغر وعلى نحو تسلسلي، بشكل “صندوق صيني” (صندوق في بطن الآخر، الى ما لا نهاية!)
إن أهم بواعث هذا الخلل الذي راح يهدد وجود العراق وقدرته على البقاء يتلخص فيما فعلته القوى الطارئة التي دفع بها الأميركان وحلفاؤهم الى سدة الحكم، إذ أنها أوحت للأميركان وللعراقيين أنفسهم بأن مفهوم الوحدة الوطنية ومفهوم الولاء الشامل للوطن إنما هي من المفاهيم المترسبة من مخلفات النظام السابق، نظام البعث. وبذلك راح العراقيون يعرفون أنفسهم وأدوارهم السياسية والاجتماعية اعتماداً على الديانة، والطائفة والنوع الاثني والمنطقة، بل وحتى العائلة والعشيرة، بدلاً من تعريف أنفسهم كـ”عراقيين” فقط.
إن الذي جرى في تلك اللحظة التاريخية كان، في جوهره، حال “إزاحة واستبدال”، أي إزاحة مفهوم وطنية العراقيين جميعاً (بوصفه من رواسب النظام السابق، خطأً) واستبداله بمفهوم كل عراقي وإيمانه الديني وأصله الاثني وتموقعه داخل جغرافية الدولة العراقية السياسية المعروفة الحدود. هذا التغير هو الذي أطلق الاندفاع للتقسيم وللاستحالة الى “إقطاعيات” تحكم كل واحدة منها شبكة من الجماعات المستفيدة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق