لست ادعي، في هذا السياق، بأن تشجيع الخيال وتسويقه بلا أهمية؛ ولكنني أزعم بأن خلق الخيالات وتسويقها على الجمهور لا يزيدان عن فرض نمط من أنماط “التمني” على المستهلك، إذ يتمنى المتخيل (اسم الفاعل) شيئاً أو بضاعة لا يمكنه الحصول عليها على أرض الواقع، ليذهب في حلم قوامه أضغاث.”
استفزازاً لأفكار تلاميذي، وتحريكاً لأجواء إبداء وتبادل الآراء، اعتدت أن اسأل تلاميذي بجامعة بغداد وبسواها من المؤسسات الأكاديمية التي تشرفت بالعمل، أستاذاً، بها: لماذا تروج بضاعة السحر والشعوذة وقراءة الفأل والنجوم في الولايات المتحدة الأميركية، بالرغم من أنها “قائدة العالم” في التقدم العلمي والتقنيات الرقمية؟ هو سؤال مجرد طالما دار في ذهني شخصياً، ثم دار دوراناً عجيباً في أذهان الطلاب الذكية، ليرغمني على رصد وتتبع وتحليل تيارات الذوق الأميركية عبر الثقافة الشائعة التي تصنع الميلارات من الدولارات، بين ليلة وضحاها، عبر تسويق بضائعها “الخيالية” على جمهور يتوثب لعوالم الخيال، كما يحدث اللحظة هناك، وعبر العالم بمناسبة عرض النسخة الجديدة من فيلم “حروب النجوم”!
وإذا كان هذا الفيلم هو مجرد تسويق لشخصيات نصف بشرية ونصف حيوانية شبه بابلية، وأسلحة وصدامات وحالات خيالية، فان الإقبال المليوني على مشاهدته وعلى عكس معطياته (الخيالية كذلك) عبر الإعلام، إنما هي حال تطرح العديد من الاستفهامات أمام العقل الفطن، خاصة إذا ما شبّ هذا العقل وشاب على تفصيلات ماكان يطلق عليها المدرسة “الواقعية” في الآداب والثقافة والفنون، باعتبارها مرآة لحقائق الحياة ولطبيعة الصراعات الاجتماعية والفكرية والنفسية الحقيقية.
بيد أن هذا التفصيل “الواقعي” لا ينطبق على رغبات العقل الأميركي الذي يفضل عليه وجبة غذاء سريعة في صندوق خال من كل مايمكن تناوله! إنه الخيال الذي مكن مجتمعات “عبادة الدولار” على استغفال الجمهور بعجائبيات الخيال عبر أهم فنون فرضها على العقل البشري؛ اي عبر السينما والمسلسلات والدراما والإعلان.
والأخير، أي الإعلان، يبدو أكثر أدوات الخيال سادية وعدم رحمة بالإنسان، ذلك أنك تشاهد إعلاناً تجارياً آسراً حول سيارات حديثة، على شاشات التلفاز، ينص: “لاعليك، فقط إمضاء صغير، وهذه السيارة لك”.وكأن الشركة المعلنة توزع السيارات مجاناً، لوجه الله! إذ يفوت المستهلك بأن الإمضاء على عقد شراء هذه السيارة الفاخرة إنما سيكلفه دفع سعرها، زائداً آلاف الدولارات الإضافية، فوائداً للمرابين.
وربما لطوال ما تبقى من سني عمره! هذا بالضبط هو “سوق الخيال” الذي يبيعك عشرة كيلوجرامات من الطماطم ويجعلك تذهب سعيداً الى عائلتك حاملاً كيساً فارغاً أو مملوءة حصى!
لست أدعي، في هذا السياق، بأن تشجيع الخيال وتسويقه بلا أهمية؛ ولكنني أزعم بأن خلق الخيالات وتسويقها على الجمهور لا يزيدان عن فرض نمط من أنماط “التمني” على المستهلك، إذ يتمنى المتخيل (اسم الفاعل) شيئاً أو بضاعة لا يمكنه الحصول عليها على أرض الواقع، ليذهب في حلم قوامه أضغاث.
صحيح، ان جميع ما حققته البشرية من مبتكرات واكتشافات واختراعات إنما بدأ “بضربة خيال” فقط، إلا أن الإفراط بالتخيل يمكن أن يقود المرء الى مصير “عباس بن فرناس”، الذي ثبّت الريش على جناحيه الاصطناعيين بمادة الشمع، كي يحلق نحو الشمس التي ما لبثت وأن اذابت بحرارة إشعاعها ذلك الشمع كي يسقط “أبو فاضل” على أرض الواقع، في استباق مأساوي لعالم الطيران و”الجمبو” و”الكونكورد” و”الإير باص”، ولكن بعد عدد من القرون، دون أن يشير أحد الى “ابن فرناس” الذي صنع العراقيون له تمثالاً من البرونز على طريق مطار بغداد الدولي فقط.
إن السؤال الأهم الذي يمكن للمرء استخلاصه من قطعة “النقد الثقافي” أعلاه، هو: هل ينبغي لمؤسساتنا التربوية والإعلامية والثقافية أن تسوق الخيال على شبيبتنا في العالم العربي، مواكبةً لمعطيات عصر الرقمية و”الدرونات”؛ أم أن عليها تقديم الواقع، وإن كان متواضعاً على عجائبيات وخيالات أفلام الخيال الجديدة، “الطازجة”.اقول هذا وأستذكر السنوات الأخيرة من نظام الرئيس السابق صدام حسين، عندما كانت “الأجهزة الأمنية” تبث إشاعات بين صفوف أساتذة الجامعات، مفادها أن الدولة ستوزع عليهم سيارات كورية مجاناً كهبات، علامة “إنسوني”، تقديراً لجهودهم وعدم مغادرتهم العراق.
ولم يزل الأساتذة الأفاضل في انتظار السيارات، لولا اختلاط مفاتيح هذه السيارات وتعقد مهمة فرزها: مفتاحاً لكل سيارة! ولم يزل الأساتذة الأجلاء يستذكرون لفظ “إنسوني” تندراً.
استفزازاً لأفكار تلاميذي، وتحريكاً لأجواء إبداء وتبادل الآراء، اعتدت أن اسأل تلاميذي بجامعة بغداد وبسواها من المؤسسات الأكاديمية التي تشرفت بالعمل، أستاذاً، بها: لماذا تروج بضاعة السحر والشعوذة وقراءة الفأل والنجوم في الولايات المتحدة الأميركية، بالرغم من أنها “قائدة العالم” في التقدم العلمي والتقنيات الرقمية؟ هو سؤال مجرد طالما دار في ذهني شخصياً، ثم دار دوراناً عجيباً في أذهان الطلاب الذكية، ليرغمني على رصد وتتبع وتحليل تيارات الذوق الأميركية عبر الثقافة الشائعة التي تصنع الميلارات من الدولارات، بين ليلة وضحاها، عبر تسويق بضائعها “الخيالية” على جمهور يتوثب لعوالم الخيال، كما يحدث اللحظة هناك، وعبر العالم بمناسبة عرض النسخة الجديدة من فيلم “حروب النجوم”!
وإذا كان هذا الفيلم هو مجرد تسويق لشخصيات نصف بشرية ونصف حيوانية شبه بابلية، وأسلحة وصدامات وحالات خيالية، فان الإقبال المليوني على مشاهدته وعلى عكس معطياته (الخيالية كذلك) عبر الإعلام، إنما هي حال تطرح العديد من الاستفهامات أمام العقل الفطن، خاصة إذا ما شبّ هذا العقل وشاب على تفصيلات ماكان يطلق عليها المدرسة “الواقعية” في الآداب والثقافة والفنون، باعتبارها مرآة لحقائق الحياة ولطبيعة الصراعات الاجتماعية والفكرية والنفسية الحقيقية.
بيد أن هذا التفصيل “الواقعي” لا ينطبق على رغبات العقل الأميركي الذي يفضل عليه وجبة غذاء سريعة في صندوق خال من كل مايمكن تناوله! إنه الخيال الذي مكن مجتمعات “عبادة الدولار” على استغفال الجمهور بعجائبيات الخيال عبر أهم فنون فرضها على العقل البشري؛ اي عبر السينما والمسلسلات والدراما والإعلان.
والأخير، أي الإعلان، يبدو أكثر أدوات الخيال سادية وعدم رحمة بالإنسان، ذلك أنك تشاهد إعلاناً تجارياً آسراً حول سيارات حديثة، على شاشات التلفاز، ينص: “لاعليك، فقط إمضاء صغير، وهذه السيارة لك”.وكأن الشركة المعلنة توزع السيارات مجاناً، لوجه الله! إذ يفوت المستهلك بأن الإمضاء على عقد شراء هذه السيارة الفاخرة إنما سيكلفه دفع سعرها، زائداً آلاف الدولارات الإضافية، فوائداً للمرابين.
وربما لطوال ما تبقى من سني عمره! هذا بالضبط هو “سوق الخيال” الذي يبيعك عشرة كيلوجرامات من الطماطم ويجعلك تذهب سعيداً الى عائلتك حاملاً كيساً فارغاً أو مملوءة حصى!
لست أدعي، في هذا السياق، بأن تشجيع الخيال وتسويقه بلا أهمية؛ ولكنني أزعم بأن خلق الخيالات وتسويقها على الجمهور لا يزيدان عن فرض نمط من أنماط “التمني” على المستهلك، إذ يتمنى المتخيل (اسم الفاعل) شيئاً أو بضاعة لا يمكنه الحصول عليها على أرض الواقع، ليذهب في حلم قوامه أضغاث.
صحيح، ان جميع ما حققته البشرية من مبتكرات واكتشافات واختراعات إنما بدأ “بضربة خيال” فقط، إلا أن الإفراط بالتخيل يمكن أن يقود المرء الى مصير “عباس بن فرناس”، الذي ثبّت الريش على جناحيه الاصطناعيين بمادة الشمع، كي يحلق نحو الشمس التي ما لبثت وأن اذابت بحرارة إشعاعها ذلك الشمع كي يسقط “أبو فاضل” على أرض الواقع، في استباق مأساوي لعالم الطيران و”الجمبو” و”الكونكورد” و”الإير باص”، ولكن بعد عدد من القرون، دون أن يشير أحد الى “ابن فرناس” الذي صنع العراقيون له تمثالاً من البرونز على طريق مطار بغداد الدولي فقط.
إن السؤال الأهم الذي يمكن للمرء استخلاصه من قطعة “النقد الثقافي” أعلاه، هو: هل ينبغي لمؤسساتنا التربوية والإعلامية والثقافية أن تسوق الخيال على شبيبتنا في العالم العربي، مواكبةً لمعطيات عصر الرقمية و”الدرونات”؛ أم أن عليها تقديم الواقع، وإن كان متواضعاً على عجائبيات وخيالات أفلام الخيال الجديدة، “الطازجة”.اقول هذا وأستذكر السنوات الأخيرة من نظام الرئيس السابق صدام حسين، عندما كانت “الأجهزة الأمنية” تبث إشاعات بين صفوف أساتذة الجامعات، مفادها أن الدولة ستوزع عليهم سيارات كورية مجاناً كهبات، علامة “إنسوني”، تقديراً لجهودهم وعدم مغادرتهم العراق.
ولم يزل الأساتذة الأفاضل في انتظار السيارات، لولا اختلاط مفاتيح هذه السيارات وتعقد مهمة فرزها: مفتاحاً لكل سيارة! ولم يزل الأساتذة الأجلاء يستذكرون لفظ “إنسوني” تندراً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق