احتفالية التحرر من العروبة ، بقلم البروفيسور محمد الدعمي
أ.د. محمد الدعمي
لا ريب في أن واحدة من أهم وظائف النقد الثقافي تتبلور في رصد وتحليل الظواهر الثقافية الأساس، مع إشارة خاصة إلى تشعباتها الاجتماعية والسياسية، وإلى تطبيقاتها العملية في مختلف مضامير الحياة. لذا أود أن أرصد فيما يلي من أسطر ظاهرة “التمرد على العروبة” التي تتجايل وتتوافق الآن مع ظاهرة التمرد على الإسلام الجارية على قدم وساق بين أعداد من المسلمين في العالم الغربي عبر إخفاء معتقدهم الديني أو مهاجمته من أجل اكتساب شيء من “المقبولية” في مجتمعات غربية راحت تعاني من رهاب الإسلام، حالًا مزمنة ومستعصية!
وإذا ما كنت أنسى، فلا أنسى كيف قدمت العديد من دول إفريقيا، من بين سواها من الدول، الطلبات بعد الطلبات إلى جامعة الدول العربية للانضمام إلى “النظام العربي المشترك” كدول عربية، كما أني أضطر إلى مقارنة ذاك العصر (عصر رواج العروبة والانتماء إليها) بعصرنا هذا، حيث راحت ذات الدول تنتزع جلد العروبة وتلبس لبوسًا ثانيًا، لا عربيًّا ولا هم يحزنون، خاصة بعد استنفاد الممكن من المساعدات والمنح المالية من “الأشقاء”، بالرغم من عدم استخدام اللغة العربية في تلك الدول. كان ذاك عصر صعود “نجم العروبة” و”الاستعراب”، إذ كان الكلدان والروميون والسريان والآشوريون والفينيقيون والكنعانيون، بل وحتى الإسرائيليون يسجلون صفة “عربي” في حقل القومية، بجنسياتهم.
إلا أن طوفان ذاك العصر أخذ يرتد على نفسه، متجسدًا على سبيل المثال وليس الحصر، في مقالة كتبها رجل دين مسيحي اسمه “الأب ثيودورس داوود”، بعنوان “لا لسنا عربًا”، بلهجة تمور بتعابير الحقد والضغينة على العرب على على نحو متعامٍ، برغم أن مقالته لم تأتِ بجديد قط، وقد كتبت لغة العرب، تأسيسًا على “أن الأميركي الذي يتكلم الإنجليزية، ليس بإنجليزي”.
أزعم بأن هذا القس المحترم لم يخترع أو يكتشف شيئًا جديدًا لا نعرفه أو لم يبحث، سوى أنه اتهم العرب بأنهم كانوا يشربون الدم، ولا يزالون، زد على ذلك اتهامهم بأنهم مدمرو حضارات، وحارقو كتب، ناهيك عن استخدام ألفاظ تنقط حقدًا على العرب والعروبة من نوع، (وناقل الكفر ليس بكافر) همجية، وخيانة، قتلة، كذابون، مزورون، على سبيل استحضار البعض من ألفاظه غير اللائقة التي انتقاها، كما يبدو، في نوبة عصابية حقود، ليخلص إلى أن السوري ليس عربيًّا، والعراقي ليس عربيًّا، وكذا الجميع من المشرق حتى سواحل المغرب العربي، بلا استثناء.
الطريف في الأمر يتجسد في التلقي الحماسي منقطع النظير لهذه المقالة التعميمية، غير الموثقة علميًّا، للأسف. بل إن عملية تناقلها ومناقلتها على نحو واسع عبر شبكات التواصل الاجتماعي (لا نعلم إن كانت المقالة منشورة في إناء ثقافي أو إعلامي محترم)، تعكس تمردًا شبابيًّا غريبًا، ليس على العرب حسب، وإنما على كل شيء ذي صفة عربية، للأسف.
يشعر المرء، عندما يتابع هذه المناقلات والاستقبال الغريب الحفاوة لهذه المقالة وكأن بعضهم يشعر بالانتشاء وكأنه قد أعتق رقبته من انتماء لم يعد مطلوبًا في عالم اليوم، بعد أن كان انتماءً رائجًا ومطلوبًا فيما مضى! فيا لتقلب الأيام.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق