أ.د. محمد الدعمي
سبق أن استعرت من حقول العلوم التطبيقية عددًا من الألفاظ أو المصطلحات من نوع “التصحر” و”التعرية” لتطبيقها على الثقافة العربية. ويبدو أن الجمهور عامة والكتاب خاصة قد استحسنوا هذه الاستعارات بدليل ما لوحظ من تكرار توظيفها بذات الطريقة هنا وهناك، إذ انتشرت تعابير “التصحر الثقافي” و”التعرية الثقافية” على نحو لا يمكن أن يمر على المتابع النابه دون ملاحظة. وفي هذا السياق، يمكن استعارة لفظ “متحجر” من علم الأرض (الجيولوجي) على سبيل تعيين ظواهر ثقافية لاجمة، بل ورجوعية، لا بد من الانتفاض عليها على طريق تحقيق “الرجة الثقافية” التي تم تناولها في مقالة يوم الخميس الماضي في (الوطن) الغراء.
والحق أقول، فإن المتحجرات الثقافية تقع في أنواع وعلى أصناف مختلفة، إلا أنها لا بد وأن تتآلف في طبيعة دورها الوظيفي الكابح والرجوعي. وللأسف، فإن المتحجرات الثقافية لم تزل تدفع بالثقافة العربية، بل والإسلامية كذلك إلى وراء، وكأنها ترنو لسد الطريق أمام تيار التقدم الجارف من خلال بتر الإبداع وقطف تبرعماته الجديدة كي تبقى ثقافتنا حبيسة صيغ متكررة وأطر خانقة لا تقبل المرونة ولا تستجيب لمطارق ومعاول التغير لأطوال زمنية لم تعد قابلة للتحمل من قبل المتطلعين من الشبيبة والنشء الوثاب إلى الجديد والواعد المشرق.
وإذا كانت انتقاداتي المتكررة لما تشيع له شبكات التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام الشائع من صورة مجسدة بالألوان لتمظهر الرجوعية، فإن في هذا المنظور من الحرف وسوء الفهم الكثير والمؤسف.
وهذه من أهم الإشكالات التي تشوب ثقافتنا المعاصرة نظرًا لسوء فهم التقدم والفاعلية الاجتماعية بوصفهما الهبوط والتدني تحت عناوين مستهلكة من نوع “الثورة” و”التمرد على المألوف” ورفض ما أملاه “القدماء” علينا. بيد أن الصحيح هو عدم التوهم بأن التدني وطلاق العربية الفصحى، ثلاثًا، هما من الشروط المسبقة للتقدم.
المعيار الصحيح يتجسد في هجر المتحجرات الثقافية أو إحالتها على التقاعد بعد أن بقيت لأزمان طويلة ولأجيال متتالية، قائمة على الثقافة، كما بقيت هذه المتحجرات الثقافية جاثمة على صدور الأجيال وعلى جسد ثقافتنا، ثم على مناهجنا المدرسية، وهي تحاول بث الحياة بتلك المتحجرات وبنفسها (كمتحجرات هي الأخرى) علها تستجيب لقوة الحياة بعد أن تصخرت لعصور.
إن ما أحاول أن أدعو إليه هو التجديد والاستبدال الثقافي كي تكون الطريق سالكة للأجيال الجديدة المتطلعة لثقافة محلية رصينة، أي الأجيال المؤهلة علميًّا وتربويًّا وأخلاقيًّا لذلك كي تبدع وتزرق شيئًا من دمائها السيّالة الساخنة في عروق “المومياوات” الثقافية المسجاة في الصناديق الزجاجية جيلًا بعد آخر. ناهيك عن ظاهرة تقنين الثقافة على أنماط تكرار هي الأخرى متحجرة كذلك على طريق إعادة إنتاج نفسها على نحو متتالٍ حتى في أذكى الأذهان وأوقد العقول الذكية التي تمررها أعين شبيبتنا ونشئنا السود الوقادة الينا بوضوح لا يقبل الشك: لم لا نتخلص من البيئات الثقافية المتحجرة، فربما برزت بيننا عبقريات تتجاوز اختبار الزمن لأعالي التسامي فوق الزمنية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق