أ.د. محمد الدعمي
يتلخص الجدل الذي حاولت أن أطوره في مقالتي للـ(الوطن) يوم الثلاثاء الماضي “هل تغمر رمال الصحارى المدينة العربية” في تعذر تحقيق المجتمعات المعاصرة في العالم العربي النصر على البداوة، قيمًا وأنماطًا سلوكية وذهنية. لست أدعي بأني قد اكتشفت الصراع بين البداوة والمدنية في مجتمعاتنا العربية قط، ذلك أن الفضل في هذا الاكتشاف يعود لمن هو أكثر تعمقًا وقدرة على تطوير الجدل من كاتب هذه الأسطر، أي “ابن خلدون” وهؤلاء الذين اتبعوا خطاه من أمثال المرحوم الأستاذ د. علي الوردي، من بين آخرين.
بيد أن على المرء أن يرصد آثار ومعطيات هذا الاكتشاف المنطوي على صراع اجتماعي مركزي مهم جدًّا، صراع قد يكمن في جوهر الحياة العربية اليوم. وهذا موضوع مهم، بالتأكيد. عندما ميّز ابن خلدون بين “العرب” و”الأعراب”، فإنه إنما كان يفرق بين نمطين للحياة في العالم العربي حقبة ذاك هما: (1) نمط الوجود الاجتماعي المستقر (المديني)؛ (2) ونمط الوجود الاجتماعي دائم الارتحال (البدوي).
وإذا كان الصراع ينطوي، كما لا حظنا سابقًا على متغيرات مد وجزر؛ فإنه يجسد ذاته في تاريخنا العربي/الإسلامي بشكل سلسلة متواصلة من الانتصارات والهزائم: فتارة تنتصر الحضارة فتهزم البداوة؛ وتارة يحدث العكس أي أن البداوة تخضع الحضارة لسلطتها، فتهزمها وتسفه أسسها، للأسف.
والحق، فإن أوائل الخلفاء في تاريخنا حاولوا دائما الحفاظ على ذلك التوازن بين السمتين، كإجراء رجال دولة، خاصة وأنهم أدركوا بأن روح البداوة لا تعني الصفات السيئة والسلبية فقط، كما قد يخطر على بال الكثيرين. للبداوة سجايا طيبة خاصة بها، هي التي جعلت بعض العرب يتشبثون ويتمسكون بها على نحو متعامٍ حتى اللحظة، أحيانًا. البداوة تشجع وتكرس “الروح العسكرية”، في ترحالها المتواصل وفي تنمية قدرات الإنسان على التحمل ومواجهة المشاق وتقوية رباطة الجأش. لذا اعتمدت الدول والإمبراطوريات الناشئة على فئات اجتماعية بدوية من أجل صيرورتها وتوسعها. هذا قانون مجرب عبر محطات عديدة: الفتوحات الإسلامية المبكرة وتأسيس الدولتين الأموية والعباسية، وفي قصة تكون الدولة العثمانية. يرتكن التأسيس إلى وجود جنود أشداء قادرين على تحمل المشاق ودحر جنود الحضارات الرخوة أو المرتخين القادمين من مدنيات سلمية رقيقة. الكيانات التي تعتمد البداوة تعتمد رجال السيف وتطوير فنون الحرب، على عكس الحضارات المدنية، لأن الأخيرة تعتمد رجال القلم وتطوير فنون السلام.
عبر مراجعاتي لتاريخ العراق والعالم العربي الحديث عامة، لاحظت أن قادة الانقلابات العسكرية التي تطرد فئات اجتماعية مدنية مهيمنة لتحل محلها، إنما ينحدر أغلبهم من أصول اجتماعية بدوية أو شبه بدوية، الأمر الذي يمكنهم من تمجيد قيم البداوة على حساب قيم المدينة لتسخيرها لأهدافهم ولهيمنتهم. هم غالبًا ما يهزمون الأنظمة الأكثر ميلًا للاسترخاء المدني. إلا أنهم غالبًا ما يسقطون في فخ الاسترخاء أنفسهم بعد استقرار الأمر إليهم، فتكتمل الدورة التاريخية عندما تأتي قوى بدوية أكثر شدة وفتكًا لتهددها. وهكذا، يدور تاريخ الأمم على نحو دوري.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق