أ.د. محمد الدعمي
إنه لمن الطريف أن نلاحظ بأن التشبث بالتقدير الاجتماعي أو بالمزايا الحكومية من خلال الحصول على درجات عليا قد لوحظ من قبل بعض الحكومات في الشرق الأوسط، فتم اعتماده أداةً من أجل خدمة مصالحهم على نحو فوري. يوظف هذا التشبث بالدرجة العلمية حاليًّا كأداة للثواب وللعقاب، ذلك أن توظيفه مصمم على نحو يناسب كل حال على حدة.
شكل الطلب المتصاعد لعنوان “دكتور”، بغض النظر عن التخصص والنوعية، الذي أبداه الصحفيون والممثلون وضباط الجيش وقوى الأمن الداخلي والمذيعون، بل وحتى الرياضيين والراقصين والراقصات، الذين رغبوا بتتبع خطى قادتهم ومديريهم في سعيهم لهذا العنوان، إلى ظاهرة فريدة في تاريخ التعليم العالي والبحث العلمي عبر العالم. صار هذا العنوان بدرجة من الجاذبية والأهمية في دول الشرق الأوسط أن رؤساء الدول راحوا يؤكدون على ذكره في كل مرة تجري فيها الإشارة إليهم في الآنية الإعلامية وهم على سدة الحكم. أما بالنسبة للمتعطشين للدكتوراه من المذكورين أعلاه، فهم دائمًا بحاجة لهذا العنوان من أجل الشهرة الاجتماعية ومن أجل اصطياد الوظائف العامة الأرفع.
إنه لمن الطريف أن نلاحظ بأن التشبث بالتقدير الاجتماعي أو بالمزايا الحكومية من خلال الحصول على درجات عليا قد لوحظ من قبل بعض الحكومات في الشرق الأوسط، فتم اعتماده أداةً من أجل خدمة مصالحهم على نحو فوري. يوظف هذا التشبث بالدرجة العلمية حاليًّا كأداة للثواب وللعقاب، ذلك أن توظيفه مصمم على نحو يناسب كل حال على حدة.
ويأتي هذا الاستخدام الخاطئ كإضافة على توظيف أدوات توزيع الثروة التقليدية التي كثيرًا ما ينقصها المعيار العادل والأساس المنطقي، باستثناء تفضيلات الحكومة والحلقة الضيقة المحيطة المستفيدة منها. ولكن في نهاية المطاف، تبقى هذه الحكومة فقط هي التي تمسك بمفاتيح اللعبة: أن تقرر جعل الفرد غنيًّا أو مهمًّا. هذه هي خلاصة الرسالة النهائية.
وهكذا تتنوع أدوات بعض الحكومات وتتحور من آن لآخر، ولكن الغرض النهائي يبقى هو سيادتها وفرض إرادتها المقلبة لحظوظ ولمصائر الأفراد والجماعات. في القرن التاسع عشر ظفر المفكر الأميركي رالف والدو إمرسون Emerson (1803-1882) بالطبيعة الحقيقية للحياة في هذا الإقليم، وهي تجسد الوجود الذي تمتطيه قوة “النصيب” وحظوظ المرء مع الحكام القساة، ملاحظًا ذلك على نحو مؤثر: “يغطس الغطاس شحاذًا، ثم يخرج من الماء وهو يحمل سعر مملكة بيده… في البلدان التي تنقصها المؤسسات الأمينة، يرغب كل فرد بامتلاك ما هو قابل للتحول”.
بطريقة أو بأخرى، يعود أمير (ألف ليلة وليلة) المزاجي والنزق، للحياة متجاوزًا رجات التغير التاريخي وخيالات الحكايات المتلاشية ليخرج علينا من قمقمه مجددًا في دول الشرق الأوسط المعاصرة بكل النزق والتقلب اللذين يقرنان بهذه الشخصية. ونظرًا لأنها وظفت كأداة من أدوات إدامة سلطة فاعلة مثل المال، تضاعفت أعداد مؤسسات التعليم العالي الهابطة المستوى وانتشرت، كالفطر، على نحو سريع في جميع الاتجاهات لأنها حظيت بالرعاية الباذخة من بعض الأنظمة التي اكتشفت بأن الشهادات العليا يمكن أن تتواشج مع مؤشرات الولاء للنظام وبقائه، خاصة عندما تغدو هذه الشهادات شروطًا مسبقة للتعيين في الوظائف العامة المهمة كوظائف السفراء أو الوزراء. لذا صار اكتساب هذه الشهادات مسألة إعلان التأييد للنظام أكثر من كونها مسألة القيمة أو الجدوى العلمية للبحث العلمي وأصالته وابتكاره، أهدافًا حقيقية له. أما في حال عدم استجابة المؤسسات الأكاديمية القديمة لهذا الغرض السياسي بما يكفي من السرعة والحماسة، فلا بأس من تأسيس أو استحداث معاهد جديدة تتوافق ومؤشرات الطلب الذي يشكل “روح العصر” الإقليمي، بغض النظر عن الأثمان الباهظة التي تدفع لهذا الغرض، أكاديميًّا وأخلاقيًّا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق