الكاتبة عناق مواسي
مقال نقدي انطباعي حول كتاب "والي المدينة" للكاتب سهيل عيساوي
بقلم: عناق مواسي
أنا أحب القصص،
وتحديدًا القصيرة منها
بطبيعتي أميل الى القصص، إلى هذا السرد، أتخيل الأحداث الشخصيات المكان
والزمان، حيث تعطيني القصة طرف الخيط لأجد نفسي أنسجم مع القصة وحبكتها ذلك النوع
الذي يشبه اللمحة، ومضة البرق قبل هطول المطر.
القصص القصيرة جدًا تُشكّل ذاكرة حكائية تختزن
الموقف والمعنى والانفعال، وتترك أثرًا طويلًا في قلب وذهن القارئ. نحن نكبر،
والقصص تكبر معنا؛ تُصبح مرآتنا، نرى فيها ملامحنا وهواجسنا، ونفتح من خلالها نوافذ
على العالم. ولهذا، كانت تجربتي مع كتاب "والي المدينة" للأديب سهيل
عيساوي
أشبه بتجوالٍ داخل متحف من المشاهد السريعة، الصادمة، الساخرة أحيانًا،
والدامعة في أحيانٍ أخرى.
"والي المدينة" ليس
مجرد عنوان؛ بل هو استعارة كثيفة لحاكم الواقع الرمزي
الكاتب يُقدّم في هذا العمل مجموعةً من القصص القصيرة جدًا، التي لا تتجاوز
في معظمها فقرة واحدة، لكنها تضج بالحياة، والرمز، والمفارقة. القصة هنا تشبه ومضة
ضوء داخل نفق، أو لُقطة سينمائية خاطفة تختزن وجعًا أعمق من كلمات. يستخدم عيساوي
تقنيات القصة المكثفة باحترافية: المفارقة، الضربة، الانزياح، التشظي، وتكثيف
اللغة حدّ الشعر.
اللغة التي يكتب بها ليست محايدة. إنها لغة مشبعة
بالشاعرية، لكنها لا تساوم في الموقف. في قصة "زيتونة"، تتحول الشجرة
إلى رمز للوطن المسروق، وفي "موت شاعر" تتحول الكتابة إلى سؤال وجودي عن
الذاكرة والنسيان. أما في قصة "مسعف"، فإن الابتسامة البلاستيكية على
وجه رجل الإنقاذ بعد التقاطه سيلفي مع القتيل، تختزل انهيار القيم والإنسانية في
عالم التواصل المريض.
القضايا المطروحة في
هذا العمل ليست سهلة ولا عابرة
إنها مشبعة بالوجع الوجودي والعربي، بدءًا من تهميش الإنسان، ومرورًا
بالعنف السياسي والاجتماعي، وانتهاءً بالعبث الوجودي. تتكرر رموز مثل الزيتون،
الحاكم، الحافلة، الهوية، الجدار، السوط، المقبرة، وهي رموز تُعيد إنتاج الواقع
المأزوم من خلال عدسة القص العميق.
كل قصة في الكتاب تشبه
صرخة مكتومة، أو صفعة على وجه الوعي
المفارقة التي تنتهي بها كل قصة غالبًا، تُجبر القارئ على الرجوع خطوة إلى
الوراء، وإعادة التفكير، وربما الصمت.
في "صندوق الانتخابات"، يكون لكل مواطن صوت...
وسوط! وفي "خروف وخطابان"، نضحك ونبكي معًا على مراوغة السياسي وذاكرة
الشعب المبتلاة بالولاء للمفرقعات.
ومن زاوية تأملية في البنية الخطابية للنصوص، يبرز التوجه الذكوري في حضور
"الوالي" بوصفه رمزًا سلطويًا مطلقًا، يحمل بين سطوره نبرة ذكورية
حاسمة. اللغة في معظم القصص مشبعة بمنظور سلطوي يتحدث من أعلى، من موقع القوة
والسيطرة. "الوالي" في عيون الكاتب ليس فقط حاكمًا سياسيًا، بل هو تمثيل
لأنظمة اجتماعية وثقافية يهيمن فيها الرجل على القرار، على المشهد، وعلى الصوت.
المرأة غائبة عن مركز السلطة في هذا العالم القصصي، وإن حضرت فهي غالبًا موضوعًا
أو خلفية، لا فاعلًا رئيسًا.
هذا التوجه يُضيء لنا كيف أن السلطة في الخيال العربي العام ما زالت ترتدي
قناع الذكورة، وتحمل صوتًا رجوليًا لا يعترف بسهولة بالهامش أو بالرقة أو بالضعف.
الغلاف الفني لكتاب “والي
المدينة – قصص قصيرة جداً” هو نافذة بصريّة تفيض بالرموز والدلالات، وتحمل في
طياتها رسالة مزدوجة، تجمع بين الحلم والأسطورة، وبين نقدٍ خفيّ للواقع المتأزم.
بتساؤل الصورة: خيال أم انعكاس للواقع؟
المشهد المرسوم يتقدّم إلينا
بشخصية “الوالي”، وهي شخصية استُحضرت من عبق التاريخ الإسلامي أو العثماني، بهيئته
الفخمة، وعمامته الكبيرة، وردائه المزخرف. يقف الوالي شامخًا، بملامح غطرسة أو
تأمل، أمام قصر بديع تتماوج في خلفيته القباب والزخارف الشرقية، وتعلو سماؤه أسراب
الطيور وغيوم شفافة في زرقة خيالية. لكن، هنا يبرز السؤال الحاد: هل يوجد والي
حقًا؟ وهل أراد الكاتب إيصال صورة وهمية ام انعكاس لواقع افتراضي؟
ربما لا. فهذه الشخصية تبدو
وكأنها خرجت من كتب ألف ليلة وليلة، لا من واقع مدننا العربية . لقد انتهى زمن
الولاة بالمعنى التقليدي، لكن “الوالي” قد يكون رمزًا، استعارة لرجل السلطة، أو
الحاكم المحلي، أو حتى لخيبة الأمل المتكررة في زمن يديرون المدن والمصائر.
السماء في الغلاف صافية،
حالمة، يطير فيها السرب بانتظام وانسجام. ولكن، هل هذه سماء مدننا؟ التي صارت ملبدة بالعنف بالأوجاع
وتطير بها الاحزان كالسراب؟
الواقع العربي ملبّد، لا
بغيوم المطر، بل بعواصف من العنف والخذلان، من الحروب الداخلية والاحتلالات
والصراعات على السلطة. السماء هنا تحاكي الحلم، لا الحقيقة، وتخلق مفارقة بين ما
نراه وما نعيشه. وكأن الرسام أراد أن يغلف النص برومانسية مضلِّلة، أو لعله قصد أن
يقول: “هكذا نتمنى أن تكون سماؤنا، لا كما هي”.
القصر الخيالي: هروب بصري
القصر في الخلفية، بقبابه
المزخرفة وجدرانه المزينة، يبدو أقرب إلى ديكور مسرحي أو خلفية لحكاية أطفال. إنه
واقع مستعار من الخيال، كأن لا علاقة له بمدننا المكتظة بالفقر والعشوائيات
والخراب والبناء العشوائي وضائقة السكن.
إنه قصر “المدينة التي لا
توجد”، مدينة الطهر والنظام والجمال، التي نحلم بها ولا نسكنها.
الغلاف بهذا التكوين الفني لا
يعكس الواقع العربي كما هو، بل يلامسه بتحايل جمالي. إنه يوحي بالسلطة والقوة،
لكنه في الوقت ذاته يشير إلى غيابها الفعلي، إلى الهروب من الواقع عبر بوابة
التاريخ أو الأسطورة. ربما هذا الغلاف هو نقد ناعم، بل وساخر، لواقعنا العربي.
فالوالي ماثل بهيبته، لكن من دون رعية واضحة. والسماء جميلة، لكن بلا أمطار
حقيقية. والقصر قائم، لكن ربما لا أحد يسكنه إلا خيال الكاتب.
وهذا ما يحمله عبقرية
التناقضات إنه يحملك إلى عالم يبدو مثالياً في النظرة الأولى، لكنه عند التأمل
العميق يتحوّل إلى مرآة تعكس هشاشة الواقع وقسوته… تمامًا كما تفعل القصص القصيرة
جدًا، التي تضرب الوعي بلحظة صدمة أو إدراك خاطف.
الانطباع الذي خلّفه
الكتاب في داخلي كبير
أشعر أنني لم أقرأ كتابًا فقط، بل عشتُ دهشةً متجددة مع كل قصة. هذا النوع
من القصّ لا يرويه إلا كاتب يمتلك عينًا ترى التفاصيل، وقلبًا يُوجعه الصمت،
وضميرًا لا يرضى بأن ينام مطمئنًا في وجه القبح. سهيل عيساوي، في هذا العمل، لا
يُقدّم لنا قصصًا فقط، بل يقدم مرآةً صافية لزمن مختلّ، وأدبًا نقيًا ينحت الذاكرة
من جديد.
ما شدّني أكثر في كتاب "والي المدينة" هو تلك
السلاسة التي تنساب بها القصص، وكأنها نُسجت لتُقرأ بنفسٍ واحد، لكنها تترك أثرًا
يمتد لسنوات. إذ لا تحتاج القصة في هذا
العمل إلى مقدمات أو تهيئة، بل تقفز مباشرة إلى القلب، تفتح أبواب التفكير دون
ضجيج، وتهمس أكثر مما تصرخ. أحب هذا النوع الأدبي تحديدًا، لأنه لا يُلقي بالقارئ
في بحر من التفصيل، بل يمنحه مفاتيح صغيرة ليفتح أبوابًا كثيرة في خياله.
القصة القصيرة جدًا تُشبه نبتة سريعة النمو؛ تنمو في
تربة الوعي فجأة، وتظل تنمو داخلك كلما تأملتها أكثر.
إنها الفن الذي لا يطلب الإذن ليعبُر، بل يعبر ويتركك
خلفه تفكّر: كيف استطاعت هذه الكلمات القليلة أن تقول كل هذا؟ لهذا، ستبقى هذه
النصوص تسكنني طويلًا، وتفتح أمامي نوافذ جديدة في كل قراءة.
(باقة الغربية )
enakmawasee@gmail.com