الثلاثاء، 3 نوفمبر 2015

عندما تستيقظ الطفلة!


 

قصة قصيرة:







ميسون أسدي

1

في كل مرّة أذهب بها لزيارة أمي، أتمنى في سريرتي، أن أجدها وحدها، فبيتها لا تنقطع عنه الزيارات، وكما قالوا "الإم بتلم".. لكني في هذا المجال أشعر بأنني أنانية، لأنني أريد أن أستفرد بها وحدي، فهي لا تفتح أبواب قلبها لي، إلا إذا كنّا وحدنا، فكثير من القصص المخبأة في صدرها سمعتها منها عندما دلفنا  معا في الهواء الطلق ووافينا أنا وأمي ضوء القمر.

2

كان ذلك ذات مساء من أيام الصيف، عندما ظهر لنا حقل النجوم على مداه، ونظرتها حائرة تهيم باتجاه السماء، وهي تسحب من اصبع يدها خاتمًا ذهبيًا ضخم ساطع الصفار وقالت: خذي هذا الخاتم، البسيه فهو هدية مني لك..

- لماذا تعطيني إياه؟ فأنت تحبين المجوهرات يا امي..

- كلامك صحيح، ولكنه يضايقني وغير مريح في اصبعي..

- إذًا، احتفظي به في خزانتك..

- لا.. خذيه أنت..

- أعطي خاتمك لمن هو أحوج مني اليه..

- لا هذا لك أنت فقط..

- ما قصتك يا امي؟!

- أشعر يا ابنتي بأنني سراج على وشك الانطفاء. ساعتي قد دنت يا ابنتي، وملاك الموت يحوم في أرجاء بيتي كل مساء، فحين أغط في النوم، أغرق في فراش الموت، واسحب نفسي بالقوة منه. أهديك هذا الخاتم ليبقى ذكرى جلساتنا معًا، وسأهدي اختك قلادة ذهبية كانت قد اهدتها لي منذ زمن بعيد، سأعيدها اليها فهي أحق مني بها.

- بعيد الشر عنك يا أمي، فأنت ما زلت قويّة جدًا..

صمتت امي طويلا وشردت، فشردت معها، ثم قالت وهي مطأطئة رأسها: فكّرت مليًا، ووصلت إلى نتيجة بأن عليه أن يتزوج. مئات النساء تزوج رجالهن ثانية، وهن  قابعات في احضانهم. ما المشكلة في أن يتزوج مرّة أخرى، لما أحرمه من الحياة، والحياة ستحرمني منها!

- من هذا الذي سيتزوج؟

- والدك. فكّرت كثيرًا بأمره، وحرام أن أظلمه، فأنا عجوز، فقدت نظري منذ سنين، ولا اقوى على المشي ولا أستطيع خدمته، بل العكس هو من يخدمني الآن. لمَ أظلمه، من حقه أن يتزوج وتقوم بعنايته امرأة قوية، فأنا قواي خارت ووهنت، وأنا اهوي وانهار في حياة الموت في حشرجة أخيرة.

- هل ما تحدثيني به هو حديث حلم أم حديث علم؟

- لا، هذه حقيقة ساطعة كنور الشمس التي حرمت من رؤيتها. ليس عندي غاية ميل لإنكار الحقيقة الراهنة! وهذه الأفكار تراودني منذ مدة طويلة، أفكر بها وحدي منذ فترة طويلة، ولم أجرؤ على البوح بها لأحد وانت أول من أشاركه همّي.

3

إنه لأمر غريب إذًا، وأنا لم انته من الاستغراب، نظرت إلى أمي غير مصدقة، فهي امرأة قوية، ولا ترضى بما تنطق به، فكيف تغيّر حالها. أمي، امرأة تغار على زوجها وتحبه حبًا جمّا، رغم نواقصه، وتغفر له كل زلّاته. اقلقني حديثها عن فكرة تزويجها لأبي أكثر من فكرة الموت الذي يتربص لها. لم أعرف كيف أجيبها، وهي تدور حول نفسها في التوسل، ولكنني دائما في وقت الشدائد تتفتح قريحتي وأكون مبدعة في الحديث واعجب بتلقائيتي التي نادرًا ما لا تصيب- قلت لها: هل جننت يا أمي؟ أبي انسان مريض منذ فترة طويلة. لا يقوى على الاقتراب من النساء، وهو بنفسه قال منذ حين بعد أن مرض بداء السكر، لم يعد يصلح بعد للنساء.. ماذا حل بك؟ هل تريدين قتله، إذا أخبرته بما تفكرين ستعود إليه عافيته، سيعتقد بانه قادر على الزواج، ويَسعد لهذه الفكرة، وبهذا ستقتلينه لا محالة، فالمسكين قلبه ضعيف وصحته كصحتك متردية، أجننت يا أمي، ألا ترين كم يضج ويتذمر ويئن كل مساء من شدة أمراضه واوجاعه، ثم من قال بانك لا تصلحين له، فانت تبدين شابة أكثر منه، أنظري إلى هذه الصورة المعلقة على الحائط لك وله، فأنت تبدين كابنة خمسين والمسكين ابي يبدو عليه الهرم والتعب، خافي الله يا أمي ولا تفكري بهذا التفكير مرّة أخرى، فوضعك أحسن بكثير من عمتي فاطمة التي تكبرك بعامين واصيبت بداء الزهايمر، ووضعك أحسن من أختك الصغرى زهرة التي أصيبت بشلل وفقدت النطق، أما أنت يا أمي فقد فقدت بصرك لكن بصيرتك ما زالت قوية جدًا..

4

بين كل جملة وجملة قلتها لأمي، وأنا أعزيها وأهز أوتار روحها، كنت أراقب لغة جسدها. كانت تشرئب بعنقها وتتسع ابتسامتها وتعود مياه الحياة إلى تجاعيد وجهها حين أهدئ لواعجها وأذكرها كم هي قوية شابة، وأبي هرم بجانبها، وأحيي الطفلة الصغيرة داخلها وهي تتخطى عامها الثمانين.

5

هبّت أمي من رغبتها اللاهفة للحياة إلى مطبخها. قفزت فرحة وحضّرت لنا القهوة وبدأنا بحديث امرأتين نديتين كعادتنا، وتبعثرت غيوم العاصفة.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق