الأربعاء، 17 يونيو 2015

ثقافتنا: بين الواعظ والسمير بقلم البروفيسور محمد الدعمي

. للمرء أن يقارن بين ثقافتنا العربية الإسلامية في النصف الأول من القرن الماضي، وبين ذات الثقافة وهي تتدحرج نحو وديان السمير الغنّاء اليوم. بل للمرء أن يستذكر حتى البرامج التلفازية فيما سبق من عقود، وكيف تكرست أغلبها لأداء دور تحريضي، إجتماعياً أو سياسياً، قصد منه الإفادة والوعظ؛ وله أن يلاحظ اليوم كيف طغت برامج “صرف الوقت” اللامجدية على برامج المعرفة والنقد السياسي والإجتماعي،”
ـــــــــــــــــ
منذ بدايات الوعي البشري بالوجود، بقيت الأنشطة والخطابات الثقافية تتأرجح بين قطبين: (1) قطب الثقافة الجادة والإصلاحية incitory culture، وأرمز لها بلفظ “الواعظ”، باعتبار أن منتج الثقافة يشعر بأنه إنما يحيا في نقطة زمنية ونقطة مكانية معينتين، بضمن مهاد إجتماعي يرنو الواعظ الى التأثير عليه، وأن عليه أن يضطلع بدور إجتماعي تشكيلي. أما القطب الثاني، فهو قطب الثقافة الترفيهية Cathartic culture التي لا ترنو لسوى تسلية المتلقي الثقافي وقضاء وقته، وأحياناً، إلى صناعة الجمال، بوصفه قيمة نهائية بحد ذاتها، وأرمز لهذا النوع من الثقافة بلفظ “السمير”، باعتبار ان منتج الثقافة يشعر بأنه إنما يسوق منتجاً رائجاً بسبب حاجة الإنسان الى الترفيه والى مغازلة عدد معين من نزعاته الطبيعية ورغباته المتنوعة.
للمرء أن يلاحظ ذلك في سياق الحفاظ على التوازن التاريخي بين “الواعظ”، من ناحية، و”السمير”، من الناحية الثانية. إذا ما حاول المرء أن يمسح بنظرة شمولية تضاريس الثقافة العربية الإسلامية الحديثة، بتعرجاتها ومنخفضاتها وجبالها، فانه لا يمكن إلا أن يلاحظ بأن هذه الثقافة كانت قد نحت نحواً “شبه كامل” لصالح “الواعظ” على حساب “السمير”، ومرد ذلك هو تصاعد الوعي العربي الإسلامي بالذات في عالم متنوع، وبضرورة إيجاد موطيء قدم للعرب والمسلمين في سياق ركب التقدم الحديث. إلا أن الأمر لم يكن كذلك في العصر الوسيط، ذلك أن شيوع وافتتان الجمهور بنتاجات ثقافية من نوع (ألف ليلة وليلة) والمقامات، إنما يدل على أن حضارتنا حقبة ذاك لم تكن تنزع لمواكبة عصر، كانت هي التي تتقدم فيه على الثقافات العالمية الأخرى عبر العالم.
لذا فإن “السمير” فاز على “الواعظ” فيما كان يسمى بـ”العصر الذهبي” للحضارة العربية الإسلامية، إذ انصب اهتمام المستهلك للثقافة بكل مامن شأنه مغازلة ومداعبة عواطفه وغرائزه، حتى راح يتغزل بمسبحة أو بمخدة، فيما تلا من حقب، نظراً لأنه لم يتمكن من منح الثقافة وظيفة مجتمعية جادة ومسؤولة. بل أن “شعر الجدية”، أو الإستجداء، برغم ما ينطوي عليه من شكوى ونقد إجتماعي، انما كان يردده الجميع، من أغنياء وفقراء، بسبب ما فيه من سرعة بديهية ونماذج إنسانية كوميدية طريفة تستحق الملاحظة، كما قال ابن الهبارية: “يقول أبو سعيد إذ رآني/ عفيفاً منذ عام ما شربتُ/ على يد اي شيخ تبت قل لي/ فقلت على يد الإفلاس تبتُ”.
أما في عصرنا الحديث الجاري، فللمرء أن يلاحظ اليوم تجريفاً ثقافياً فظيعاً يضطلع به “السمير” كي يتجاوز ويهزم “الواعظ” . وللمرء أن يقارن بين ثقافتنا العربية الإسلامية في النصف الأول من القرن الماضي، وبين ذات الثقافة وهي تتدحرج نحو وديان السمير الغنّاء اليوم. بل للمرء أن يستذكر حتى البرامج التلفازية فيما سبق من عقود، وكيف تكرست أغلبها لأداء دور تحريضي، إجتماعياً أو سياسياً، قصد منه الإفادة والوعظ؛ وله أن يلاحظ اليوم كيف طغت برامج “صرف الوقت” اللامجدية على برامج المعرفة والنقد السياسي والإجتماعي، لقياس زاوية الإنحراف بين ما كان، عندما كان “الواعظ” هو المتقدم، من ناحية، وبين مايكون الآن بعدما تقدم “السمير” على الواعظ بمسافات طويلة. وللأسف، لم يعد الواعظ سوى أثر طللي جامع لغبار الزمن من الماضي، أثر يستحق العطف والرحمة.
هي حال أشبه ما تكون بتتالي المد والجزر اللذين يتناغمان مع مؤشرات ذوقية، فكرية متغيرة؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق