السبت، 13 يونيو 2015

شؤون وشجون ثقافية معاصرة بقلم البروفيسور محمد الدعمي

أ.د. محمد الدعمي
كلما تأمل المرء ثقافتنا في العصر الحديث، وجد نفسه أسيرًا لعدد من المفاهيم المختلطة. بل إن ما يزيد من الاختلاط يتجسد في غيمية ما تنتجه المفاهيم المختلطة أعلاه من معضلة اصطلاح ينقصه الوضوح ويخترقه الشك وعدم الاتفاق.
لذا، لا يشك المرء في أن توصيفات من النوع الذي يستخدمه كاتب هذه الأسطر، أي التوصيف الشائع المركب “عربي/إسلامي” يبقى مركبًا مربكًا للذهن ذي النزعة النقدية: فما المقصود بالعربي، أولًا؟ وما المقصود بالإسلامي، ثانيًا؟ هل “العربي” هو الذي يعتمد اللغة العربية وسيلة للاتصال ولإيصال الأفكار؟ أم أنه يرتهن بإثنية المهتم أو المنتج، أي أنه ينبغي أن يكون مصريًّا أو سوريًّا أو عمانيًّا أو سودانيًّا ليكون جزءًا مما نطلق عليه التوصيف المركب: الثقافة العربية/الإسلامية؟ وإذا كان الأمر كذلك، كيف تتسنى لنا عملية التصنيف، بمعنى كيف يمكن أن نصف نتاجات عقول هندية أو بربرية مسلمة، ولكنها تعتمد لغات سوى العربية للتواصل أو للإيصال الثقافي؟ هي عقول مسلمة، لا ريب، ولكنها ليست عربية بكل تأكيد، في الوقت ذاته.
تقودنا هذه التعقيدات إلى مباشرة مسألة الشوفينية العربية، جزءًا من الثقافة “العربية الإسلامية”. ولكن هنا تقفز أمامنا عقدة أخرى، أي، كيف يمكن أن نصنف نتاجات ثقافية رفيعة باللغة العربية وبأقلام رجال أو نساء عرب أو عربيات بوصفها “عربية/ إسلامية”، إذا لم يكن هؤلاء مسلمين، أو أن نتاجاتهم كانت ذات صفة مسيحية أو يهودية، لا صلة لها بالديانة الإسلامية، لا من بعيد ولا من قريب. لذا تقدم لنا نتاجات عبقرية من عيار مؤلفات جبران خليل جبران معضلة تصنيف إضافية: فالرجل كتب باللغة العربية والإنجليزية ولم يكن مسلمًا، بقدر ما أنه كان يعتنق فلسفة إنسانية خاصة به، فلسفة تتشكل من، ربما، عشرات العناصر التكوينية، نصرانية وإسلامية، عربية وأميركية، ريفية وحضرية. تصنيف النتاجات الثقافية التي أبدعها يهود كانوا يحيون في دولنا العربية حتى عهد قريب. هم يهود كتبوا، وما زال بعضهم يكتبون باللغة العربية، إلا أنهم لا يمتون لدين الأغلبية المسلمة بأية صلة مهما كانت، من هؤلاء كتاب أسهموا في ابتكار أو نقل فنون ثقافية لم تكن معروفة في عالمنا العربي من ذي قبل.
لذا لا نشك في أن هناك العشرات من المصطلحات الثقافية الشائعة التي تم “تدجين” المستهلك للثقافة على تمريرها دون مساءلة، فقبلها بتعام من خلال التكرار كي تغدو من المسلمات التي لا جدال فيها.
وإذا كانت الصفة المركبة أعلاه من أسباب إرباك العقل الشاب الناشئ في عصرنا الجاري هذا، فإنها لا تقل إرباكًا واختلاطًا بالنسبة لهذا العقل عن ميل العقل العربي المعاصر عامة للاستنساخ والمحاكاة: فكما مرت الثقافات الأوروبية بعصر نهضة وعصر أنوار، لا بد لهذا العقل من استعارة هذه الاصطلاحات من الثقافات الأوروبية لغرض فرضها قسرًا على ثقافة محلية مختلفة، أي ثقافة لها قيمها وذائقتها وذهنيتها، زيادة على لغاتها وآنياتها الاجتماعية الخاصة.
سبق أن ناقشنا معضلة اختلاط مصطلح “النهضة الثقافية العربية” أو “العربية/الإسلامية” في مقالات عدة لـ(الوطن) الغراء، إلا لأننا بقينا ندور في حلقة مفرغة دورانًا عجيبًا، في عصر لم تعد صفته العولمية تسمح بتمرير هذا النوع من التوصيفات الاسترجاعية المركبة، والمسكونة بإرادة الارتداد إلى الماضي الطللي. وإذا كنا قد لاحظنا اختلاط صفتي “عربي” و”مسلم” علينا اليوم، فإن للمرء أن يتكئ متيقنًا من أن هذا الاختلاط كان قد شاب عقول من أطلق عليهم اصطلاح “أساطين” النهضة، أي رفاعة رافع الطهطاوي وخير الدين التونسي وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، من بين آخرين.
لم يكن هؤلاء، كما أرى، قادرين على سحب خط واضح المعالم بين العربي والإسلامي: فراحوا يعدون كل ما يعتمد العربية وسيلة اتصال له إسلاميًّاـ ومسلمًا، كما رحنا نحاكيهم عبر قرنين، بتعامٍ مفرط، للأسف.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق