الجمعة، 20 فبراير 2015

ظرفاء من بغداد ، بقلم البروفيسور محمد الدعمي


أ.د. محمد الدعمي
الأطرف هو قصص الأدباء الساخرة التي حدثت قبل عقود قليلة. كان منها أن ذهب كاتب قصة قصيرة شاب لاستلام مكافأته المعتادة عن قصة منشورة في المجلة التي اعتاد أن ينشر قصصه على صفحاتها. لقد تفاجأ القاص أعلاه بمبلغ 50 دينارًا مكافأة، بدلًا عن الـ25 دينارًا المعتادة. لذا اضطر للاستفسار من أمين الصندوق (المحاسب) متحرجًا عن سبب حصوله على هذا المبلغ الإضافي، فأجابه الأخير بأن آخر قصة نشرت للشاب قد أثارته جنسيًّا فقرر هو مضاعفة مكافأة القاص من جيبه الشخصي!
بشغف كبير، يستذكر الأدباء، شعراء وناثرين خياليين، أعدادًا من الطرائف والحالات المضحكة التي تستدعي التندر، خاصة في حلقاتهم الاجتماعية الضيقة نسبيًّا. لذا فإنك لا يمكن أن تصادف مثل هذه النوادر والطرائف إلا في مقاهيهم أو مجالسهم الخاصة أو في مواضع أنشطتهم الاجتماعية، كنوادي اتحادات الأدباء.
وإذا كان الأدباء والمتأدبون مغرمين بالسخرية وبفنون اختلاقها واستغلالها منذ أقدم العصور، فإنهم يكمنون اليوم على خزين كبير وثر منها، مما جاد به عصرنا المزدحم الجاري. ومن ذلك المليح من الطرائف أن همس الشاعر الكبير حافظ إبراهيم في أذن مجايله، أمير الشعراء، أحمد شوقي، قائلًا: “يقولون إن الشوق نار وحرقة/فما بال “شوقي” اليوم أصبح باردا؟” لذا أجابه شوقي، شاكًّا في دوافع غريمه: استودعت إنسانًا وكلبًا أمانة/ فضيعها الإنسان والكلب “حافظ”. بذكاء وظف كلا الشاعرين أسماءهما على نحو يستحق الاهتمام ويستدر المزاح. وقد حدثت من هذه المفارقات الكثير بين المتجايلين الرصافي والزهاوي ببغداد لقرن الماضي.
والأطرف هو قصص الأدباء الساخرة التي حدثت قبل عقود قليلة. كان منها أن ذهب كاتب قصة قصيرة شاب لاستلام مكافأته المعتادة عن قصة منشورة في المجلة التي اعتاد أن ينشر قصصه على صفحاتها. لقد تفاجأ القاص أعلاه بمبلغ 50 دينارًا مكافأة، بدلًا عن الـ25 دينارًا المعتادة. لذا اضطر للاستفسار من أمين الصندوق (المحاسب) متحرجًا عن سبب حصوله على هذا المبلغ الإضافي، فأجابه الأخير بأن آخر قصة نشرت للشاب قد أثارته جنسيًّا فقرر هو مضاعفة مكافأة القاص من جيبه الشخصي! وهكذا قرر القاص إياه، الذي كان مبتدئًا وقتذاك، أن يغرق أمين الصندوق بالكثير من هذا النوع من القصص أو الاقصوصات المثيرة للغرائز والتي لا تخلو من شيء من التفصيل، جريًا وراء المكافآت الإضافية.
أما أطرف ما كان يحدث بين الأدباء أو المتشبثين بالأدب في بغداد سبعينيات القرن المنصرم، فهو أن أحدهم قرر احتراف بيع “العناوين”، أي عناوين القصائد أو الروايات أو القصص أو الكتب. وهي حرفة ظريفة لا يقدم عليها سوى ظرفاء الأدب الذين ارتكنوا إلى تراث ثر ومعرفة ممتازة باللغة وبالمزاج الشعبي والذوقي ومتغيراته. لذا تجد صاحبنا جالسًا في مقره، “مقهى حسن عجمي”، باعتداد في انتظار المتسوقين من الكتاب والأدباء الشبان الباحثين عن السائد عند القراء حتى يتمكنوا من استمكان أهوائهم ورغباتهم وما تهفو إليه أنفسهم، فيسك لهم صاحبنا عنوانًا آسرًا. قرر هؤلاء امتهان بيع وتسويق الفاتن والآسر من العناوين لنتاجات الكتاب والشعراء الشباب الذين كان يضنيهم ابتداع العنوان الجذاب لكتاباتهم. لذا تجدهم باحثين عن “بائع العناوين” في مقره بإحدى مقاهي شارع الرشيد أو شارع “أبي نؤاس”، حيث يجلس صاحبنا مسوق العناوين بكل اعتداد لتسويق بضاعته التي قد لا تزيد عن كلمة واحدة، مقابل بدائل نقدية جيدة، بطبيعة الحال.
وإذا كان ما جاء أعلاه من قبيل “الخدمات” الثقافية أو “البضائع” الأدبية الصالحة للاتجار مقابل بدائل نقدية لعدد صغير وخاص جدًّا من الزبائن، فإن الأغرب في هذا النوع من الباعة هم هؤلاء من فناني الأدب اللاذعين الذين يسوقون صمتهم فقط، إذا ما حققت مقالة نقد أو قصيدة هجاء واحدة نجاحًا يكفي للفت أنظار المتنفذين في السلطة أو عوالم المال والتجارة، فإنهم يبحثون عن الكاتب أو الشاعر ليخصصوا له مرتبات مقبولة كشاعر أو أديب في مقابل غض النظر عنهم واكتفاء لشرور لسانه الناقد الذي قد لا يستثني الكاتب أو الشاعر نفسه من الهجاء أو النقد في حالات الانفعال، كما فعل “الحطيئة” عندما لم يجد من يهجوه، فهجا نفسه!


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق