الأربعاء، 18 فبراير 2015

رجع موجع بقلم البروفيسور محمد الدعمي

نه لمن نافلة القول إن نطر العرب “لنقدهم الذاتي” للعصر الجاهلي؛ ونطر الأوروبيين “لنقدهم الذاتي” لعصر ما قبل الاستنارة والتنوير. ولكن أن نشهد، في القرن الواحد والعشرين، يقظة للممارسات التي أدانها العرب والأوروبيون من ذي قبل، فإن في ذلك ما يستحق التوقف والتأمل المتأني: هل ثمة “رجع” عنيف في حركة التاريخ؟”
ــــــــــــــــــــــــــ
درج العرب على استعمال لفظ “جاهلي” لوصم تاريخهم في حقبة ما قبل الإسلام؛ وفي هذا الوصف شيء من التواضع الطيب، زيادة على الكثير من العرفان والتقدير لما أضفاه الإسلام على الحياة العربية من سجايا طيبة. هي سجايا أهلتهم لارتقاء قمة التقدم العلمي والثقافي في العصر الوسيط، عندما صارت بغداد، كنيويورك اليوم، عاصمة كوزموبوليتانية عالمية يتوجه القوم إليها من كل حدب وصوب طلبا للعلم أو ترويجا لتجارة أو ممارسة لمهنة، وهكذا.
وإذا كانت هذه من سجايا “النقد الذاتي” التي أرسى أجدادنا أعمدته منذ زمن طويل، فإن الأوربيين يستحقون التقدير والاحترام كذلك، لأنهم حذوا حذونا، اعتبارياً وأخلاقياً، عندما وصموا العصر الوسيط بلفظ “المظلم”، مقارنة “بعصر “الأنوار” التالي. وعندما لا يتحرج الأوروبيون من وصم القرون الوسطى بـ”المظلمة” فإن في ذلك ما يستاهل التقدير والإطراء، لأنهم بذلك يرفضون ويدينون عددا من الممارسات والأفكار التي بقيت تسحب العالم الغربي الى الخلف عبر تلك القرون الثقيلة. في اعتمادهم لفظ “المظلم”، يدين الأوروبيون، ضمنيا، الحملات الصليبية ضد العالم الإسلامي. ومن بين ممارسات سلبية أخرى، هم يدينون أخطاء الكنيسة الكاثوليكية حقبة ذاك، لأنها كانت تبيع “صكوك الغفران” مقابل بدائل من المال؛ كما أنهم يرفضون وضع العلماء والفلاسفة “على القازوق” فقط لأنهم قالوا بكروية الأرض ورفضوا بالتسليم بأن القدس هي مركز الكون. لقد لفظ العديد من عباقرة العصر الوسيط أنفاسهم الأخيرة بهذه الطريقة الدموية، إضافة لطريقة “الحرق” أحياءً بتهم السحر والشعوذة، لمن يشكوا في أنه أو أنها تمارس هذه الغيبيات، فكانت المرحومة “جان دارك” من ضحايا الحرق و”محاكم التفتيش” والمقاصل التي إنتشرت في العديد من المدن الأوربية حقبة ذاك.
إنه لمن نافلة القول أن نطري العرب “لنقدهم الذاتي” للعصر الجاهلي؛ ونطري الأوروبيين “لنقدهم الذاتي” لعصر ماقبل الاستنارة والتنوير. ولكن أن نشهد، في القرن الواحد والعشرين، يقظة للمارسات التي أدانها العرب والأوروبيون من ذي قبل، فان في ذلك ما يستحق التوقف والتأمل المتأني: هل ثمة “رجع” عنيف في حركة التاريخ؟ وهل نحيي عصوراً مظلمة وسوداء لإيقاف ركب التقدم المرتكن على حقائق العالم الجديد الذي يتعاون نصفاه الشرقي والغربي، تشبثاً بمستقبل واعد تسوده قيم المحبة والسلام.
للمرء أن يحذر شبيبتنا ونشأنا من هذا النوع من المخاطر الرجوعية، خاصة وأنه يشهد أن العالم الغربي، الذي يمتاز علينا بالتفوق والتقدم عبر الحقبة الجارية، يعود لممارسات مظلمة لاتعد الإنسان إلا بالويل والثبور. على الجانب الغربي من الكرة الأرضية أرقب اليوم أصواتاً غربية نكراء تدعو لمحاربة الإسلام والمسلمين: فتعد إلههم إلهاً سوى إله العالم الغربي (أو المسيحي، الآري) وتستمريء وصم الإسلام بالنعوت والصفات الدونية بسبب ما أقدمت وتقدم عليه ثلة من شذاذ الآفاق والمرتدين المحسوبين علينا الذين لم يقدموا للإسلام سوى صورة تعيبنا وتعيبهم.
للمرء أن يلاحظ هذا في سياق استذكار كلمة مهمة لرئيسة وزراء الدانمارك يوم أمس إثر ما أقدم عليه شاب مسلم من جرائم ومحاولات قتل في كوبنهاجن قبل بضعة ايام. قالت هذا السياسية البعيدة النظر بأن علينا أن نميز بين الدين الإسلامي، من ناحية، وبين هؤلاء الذين يزاوجون إنتحال الإسلام بالجريمة لغرض تبريرها. هذا هو عين الصواب الذي لا يفهمه العديدون من الذين يروموا دفع العالم إلى هاوية العصبيات الدينية والثقافية والحضارية، للأسف.
لدينا من هؤلاء الموتورين الكثير، وللعالم الغربي من الممسوسين الكثير كذلك. ودليل ذلك يمثل أمامي اللحظة على شاشات آنية وقنوات التواصل الإجتماعي التي تشهد حملة معيبة وكبيرة لتشويه صورة الإسلام والمسلمين على النحو الذي يصب في نهايات الاستعداء بدلاً عن التسامح، الكراهية بدلاً عن المحبة، التوتر بدلاً عن التعاون والتناغم. إن العالم على مفترق طرق اللحظة، وعليه أن يختار بين اتباع طريق الحكمة والخير ، أو طريق الشرور والصراعات والضغائن والمؤامرات وسفك الدماء.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق