السبت، 10 يناير 2015

لا تعبث مع التقاليد الروحية يا خواجة ، بقلم البروفيسور محمد الدعمي

أ.د. محمد الدعمي
دار النقاش الساخن دورانًا عجيبًا في كل من باريس ولندن عبر العصر الذهبي لبناء الإمبراطوريات الأوروبية (القرن التاسع عشر) حول فيما إذا كان الجندي هو الذي ينبغي أن يسبق المبشر المسيحي نحو الأصقاع المرشحة للاستعمار أم العكس؛ أي أن يعبد المبشر الطريق للجندي الاستعماري كي تسهل مهمة الهيمنة على أقاليم شاسعة من آسيا وإفريقيا.
وإذا كان تخصصي الدقيق في أدبيات الاستشراق قد أهلني لبحث مثل هذه الجدليات التي يتوارثونها اليوم جيلًا عن جيل في العالم الغربي، فإنه من المهم أن يلاحظ المرء أن البريطانيين كانوا أكثر ميلًا إلى احترام المعتقدات الروحية للشعوب المرشحة لهيمنة لندن، بينما كان الفرنسيون أكثر ميلًا إلى النزق وإلى السخرية من مشاعر الأفارقة والآسيويين. وهو الفرق بين الاستعمار الاقتصادي (بريطانيا) والاستعمار الاستيطاني (فرنسا). وهذا، بالضبط، ما أسس لسياسة “الفرنسة” في الدول التي وقعت ضحية للكولونيالية الفرنسية، للأسف. البريطانيون أكثر حكمة وبعد نظر لأنهم كانوا يعرفون “من أين تؤكل الكتف”، كما يقال. لم يكن التبشير الديني هو أولويتهم، بقدر ما كانت الثروات الطبيعية في الأقاليم التي فرضوا عليها الضم أو الانتداب.
وإذا كان تصرف الضباط والإداريين البريطانيين على نحو أكثر ذكاءً من أقرانهم الفرنسيين، فإنهم تركوا إرثًا مهمًّا للغاية بقدر تعلق الأمر بالعلاقات بين العالم الشرقي والعالم العربي، إرث يمكن أن ألخصه بعنوان مقالتي هذه أعلاه، وهو: “لا تعبث مع معتقدات الشعوب الروحية”.
يبدو أن الفرنسيين قد تصلبوا كثيرًا في هذا الحقل، بسبب احتسائهم للكثير من القهوة ولمدد طويلة، حتى جاءتهم الضربة الإرهابية القاسية يوم الأربعاء (7، يناير 2015) مع بداية العام الجديد، من قبل متطرفين إسلاميين لم يتمكنوا من احتمال إساءات إضافية أخرى من المجلات الفرنسية من نمط (شارلي إبدو) Charlie Hebdo التي أوغلت في الإساءة للإسلام، نظامًا روحيًّا عالميًّا، ولشواخصه المقدسة التي يكن لها المسلمون أيما احترام.
وإذا لم أكن أرغب في أن أبدو وكأني “أبرر” ما أقدم عليه المتطرفون من جريمة بشعة ضد مجلة ومحرريها، فإني أتمسك بما أرساه مرتشفو الشاي البريطانيون من قواعد عدم المساس بالرموز الروحية للأمم والجماعات المحتلة أو المهيمن عليها، لأن هذا هو ما يستثير حفيظة المسلم درجة عد الموت في عمل تخريب من هذا النوع استشهادًا، والمساعدة عليه جهادًا. لذا فإن على المرء أن يدعو أولي الأمر في الحكومات الغربية لأن لا يجهزوا الإرهابيين من النوع أعلاه بالمبررات التي تسوغ لهم ارتكاب مثل هذه الآثام: فالإسلام لا يحتاج لأمثال هؤلاء كي يدافعوا عنه. هو أسمى بكثير من أن ينال منه أحد.
لذا فقد آن الآوان للفرنسيين والنرويجيين والدنماركيين، من بين سواهم من الأوروبيين والغربيين عامة، أن يلاحظوا ذلك والتوصية بعدم المساس بالعواطف الروحية للمسلمين خاصة، نظرًا لأن التعرض إلى شواخصهم لا يخدم هدفًا ثقافيًّا أو حواريًّا، أولًا؛ ثم أنه يأتي العالم الغربي بما لا يشتهيه من مآسٍ، كان يمكن تجنبها ببساطة من نوع إعمام الحكومات الغربية بتوخي الحذر وعدم الإنسياق في موجة الإساءة للأديان العظيمة التي يعتنقها الملايين من البشر: فلم العبث بالسلاح الناري؟
أما إذا ما شاء المسؤولون الغربيون، مع أجهزة الإعلام الرئيسة، تصوير حادثة باريس بأنها تحدٍّ لحرية الرأي وديمقراطية الكلام فقط، فإن في ذلك ما لن يسر الأوروبيين من نتائج ومعطيات، لأن هذا النوع من الليّ لا يمكن أن يثني المتطرفين والإرهابيين عن الإتيان بأعمال مأساوية كان بالإمكان تجاوزها. علمًا أن سلمان رشدي لم يزل حبيسًا في مكان ما، يصعب عليه الخروج إلى العالم الخارجي، حفاظًا على رأسه فوق كتفيه نظرًا لما أقدم عليه من إساءات!


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق