السبت، 22 نوفمبر 2014

قرامطة: جيل ثانٍ بقلم المفكر بروفيسور محمد الدعيمي


بما كان استنتاج كتابي (تخنيث الغرب)، بيروت، 2014 الذي يفيد بأن الحركات الإرهابية الفاعلة اليوم، كالقاعدة وخراسان والدولة الإسلامية، قد استوحت العديد من برامجها وأساليب عملها الإرهابي من حركات إرهابية ظهرت وعملت ثم تلاشت إبان العصر الوسيط هو الأكثر إثارة للاهتمام، فإن جدل الكتاب أعلاه قد تتبع توازيًا بين حركات إرهابية وسيطة معارضة، كحركة الحشاشين ومنظمة إخوان الصفا (ماسونيو البصرة) الغامضة من ناحية، وبين الحركات الإرهابية الفاعلة اليوم باسم الإسلام، من الناحية الثانية. وإذا كان الاستنتاج أعلاه يعني أن ما نعاني منه اليوم يضرب بجذوره عميقًا في تربة الماضي، فإنه يقدم لنا العديد من التوازيات والمنطلقات والأدوات المشتركة التي وفرها “أرشيف” إرهاب العصر الوسيط للإرهاب المعاصر على سبيل التفعيل.
بيد أن على المرء أن يعترف بأن أدق توازٍ بين الماضي والحاضر، أي بين الإرهاب اليوم والإرهاب في القرون الوسطى إنما يتجسد في “حركة القرامطة”، تلك الحركة التي اعتمدت الإرهاب منهجًا ثابتًا وامتطت بث الرعب والتهويل أدواةً لتحقيق أهدافها. لذا فقد استثنيت القرامطة من رصدي بهدف تخصيص كتاب كامل لهذا البحث بعنوان The Karmatnians.
لم تكن لدى القرامطة الذين أسسوا دولة لهم عبر الإقليم الشرقي لجزيرة العرب الكثير من المحرمات التي نهى الإسلام عنها، فقد راحوا يهاجمون الخلافة العباسية ببغداد، بهدف إسقاطها، بينما شملت غاراتهم قوافل الحجاج نهبًا وقتلًا حتى أنهم أوقفوا تدفق بئر زمزم بجثث القتلى من ضحاياهم. بل إن الأخطر يتجسد في هجومهم على الكعبة واستيلائهم على الحجر الأسود ثم نقله ومصادرته (والعياذ بالله) لسنوات عدة من أجل العبث بجوهر شعيرة الحج ذاتها، كما فعلوا لشعائر وفروض الصلاة والصيام، الحج والزكاة. ولم تتمكن السلطة المركزية من استرداد الحجر الأسود إلا بعد دفع فدية أو تعويض كبير للقرامطة من أجل إعادته إلى حيث كمن منذ أزمنة غابرة، في البيت العتيق.
وإذا كان مذهب القرامطة يبيح هذا النوع من القتل المتعامي والعدوان غير المسؤول على الآخرين، فإنه استحال إلى نوع من الاعتباطية النابعة من اعتباطية الاجتهاد حتى تناهت اجتهاداتهم إلى تحليل المحرمات والتساهل في أداء الفروض الدينية الأساس، زيادة على استباحة المحارم، درجة أنهم فتحوا الأبواب على إدخال الغريب والمستعار من العقائد إلى الإسلام، خاصة بعد أن عيَّن صاحبهم (أبو طاهر الجنابي) شابَّا فارسيًّا على رأس دولتهم بدعوى تمثيله لـ”المهدي” المنتظر، الأمر الذي أتاح للأخير إدخال البدع على عقائدهم بالدرجة الكافية لأن يدعي الدارس أنهم اصطنعوا دينًا “تركيبيًّا” جديدًا لا صلة له بالإسلام الأصل، لأنه أدخل الغريب من عقائد الديانات القديمة كالزرادشتية والمانوية إلى “الدين” الذي كان القرامطة يدعونه.
وكما ينوي أن يفعل جيل القرامطة الجدد اليوم، فقد سكّ قرامطة العصر الوسيط لدولتهم نقودًا خاصة بدولتهم تم تداولها عبر مناطق امتدت إلى التخوم الجنوبية للجزيرة، كما أنهم حاولوا ابتكار نظام اقتصادي “اشتراكي” خاص بهم، بدعوى تحقيق نوع من العدالة الاجتماعية المخالفة لأبهة الخلفاء وولاتهم، لأنها أتاحت لهم توظيف أموال الضرائب والمكوس والأتاوات التي فرضت على الناس والتجارة عنوة، تحت عنوان “حصة المهدي” بطرق اعتباطية في نهاية المطاف، الأمر الذي قاد إلى تدهور وضعف وتضعضع دولتهم حتى وضع العيونيون (بزعامة عبدالله بن علي العيوني) نهاية لدولة القرامطة على نحو حاسم حقبة ذاك. لا يدري المرء بعد هذا الاستعراض، هل نتعامل اليوم مع نمط مبتكر من القرامطة الجدد، أم ماذا؟
                                        المفكر  بروفيسور  محمد الدعيمي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق