السبت، 6 سبتمبر 2014

على أعتاب حلم عبثي


أ.د. محمد الدعمي
حاولت في كتابي الذي سينشر في القريب العاجل (الشرق الأوسط: إقليم مفارقات)، وكما فعلت عبر العديد من كتبي ومقالاتي، أن أميط اللثام عن الأوضاع المحبطة للعديد من دول الشرق الأوسط (شعوبًا وحكومات)، تلك الدول المأسورة بماضٍ طللي متناهٍ إليها من القرون الوسطى، ماضٍ غير قابل لإعادة الإنتاج ولا للمحاكاة لعدد من الأسباب والعوامل المتنوعة، منها الداخلية ومنها الخارجية. يتجسد أقوى هذه الأسباب وأكثرها فاعلية في تراجع روح المبادرة الإبداعية بين أقوام الإقليم في مقابل تقدم روح المحاكاة التي تهيمن على هذه الأقوام في عالم تنافسي لا مجال فيه للسلبي والمستكين غير القادر على المبادرة والخلق. وعلى نحو أكثر تبسيطًا لمباشرة وتطوير جدلي، أفترض هيمنة حلم سلفي معيق مستوحى من القرون الوسطى، حلم يحظى بإدامة الفئات المستفيدة من بقائه وتواصله على نحو لا نهائي درجة قرنه ببقائها وتواصل نفوذها. إذا لم تحرر أقوام الشرق نفسها من هذا الحلم الذي له تأثير التنويم المغناطيسي، فإنها ستبقى حبيسة بدائرة لعنة سحر أسود مغلقة، كتلك اللعنة الأبدية التي وقعت على “سيزيف” في جهده العبثي لإنجاز ما يستحيل إنجازه. لا يقصد من هذا الجدل إدانة بعض الطبقات الحاكمة والمتنفذة في دول الإقليم لأن ترويضها لشعوبها هو، في حقيقته، جزء من تلك اللعنة التي توارثتها هي الأخرى ووقعت ضحية لها. لقد غدا الحلم المعيق هذا أسلوبًا معتمدًا للحياة، أسلوبًا يمكن تبريره وتمريره والدفاع عنه كواحد من أعمدة الاستقرار القديمة، عمود يمكن تقديمه وبهرجته، أسلوب حياة متفوق مقارنة بالأساليب المعتمدة بين الأمم والدول الأخرى. يكمن المأزق الحقيقي في الضوابط الاجتماعية القوية والمقاومة للصدمات والرجات التي تدعمها أطر سياسية اجتماعية قديمة شاخت حتى عجزت عن الحركة والتطور بسبب ضمها لتقليد مقدس وعتيق يتجذر في قيم البداوة الصحراوي الجافة. لذا يشكل الإقليم لغزًا لا يمكن أن يُحل بسهولة بالنسبة للعالم الحديث بأسره، خاصة وأنه يمسك بنسغ حياة العالم الصناعي (النفط) بيد، بينما يمسك ببعض من أكثر أسلحة الدمار الشامل فتكًا باليد الأخرى؛ وأقصد بذلك سلاح “الإرهاب” الذي صيّر الاستجابة للتغير ومحاولة تحرير أقوام الإقليم من الغلاف المتحجر الذي أولجت فيه لقرون من ضروب المستحيل، برغم ضربات مطارق الجديد والشجاع القوية والمتعاقبة على ذلك الغلاف.
استوحيت الفكرة الأصل لهذا الكتاب من استذكار وتفحص عدد من المحكات والمحطات المهمة والمفارقات المشحونة بالمعنى ذات القيمة الخاصة من أجل التحقق من “افتراضية الحلم” التي تكونت أصلًا من ذات الاستفهامات التي أرقت وأربكت أساطين النهضة العربية الإسلامية قبل أكثر من قرن ونصف. هي استفهامات قُصد منها إلقاء الأضواء على أسباب حفاظ أقوام هذا الإقليم على موقف رجوعي متخلف مقارنة بالأمم المتقدمة السائرة نحو المستقبل الزاهر؛ كما قُصد منها إيضاح الكيفية التي يخدم الماضي الوسيط بموجبها عاملًا من عوامل الإعاقة التي تواشج الحاضر والمستقبل بمنظومة عجلات كبيرة متعشقة ببعضها البعض لتدوير آلية كبيرة قوامها منظومات ثانوية من العجلات المتعشقة كذلك، لتشكل مع المنظومة الأولى آلية عملاقة معقدة لأنها تدور بواسطة محرك أساس ذي طبيعة أسطورية مضموم في دواخل النفس الجماعية التي تتردد إلى ذلك “الماضي المجيد” المفترض حتى استحال التاريخ إلى عامل إعاقة بسبب اجتثاثه لملكة الإبداع وتغذيته لملكة المحاكاة. لقد أطفئ ما ينبعث منه من شعاع الماضي، فبدلًا من إحالته إلى دافع للتغير أو قوة للتقدم، تجاوز الحلم تيقنات اللاوعي الجماعي ليغدو زنزانة خانقة.
يجد المرء أكثر الآثار المعيقة لهذا النوع من الحبس في ظلامية الماضي التي تجعل بعض أقوام الإقليم تخشى الضوء وتختفي لتتجنب الإشعاع النابض بالحياة، ذلك الإشعاع الذي يحرك الركود والذي يفتح منافذ الهروب إلى الأضواء. لا ينبغي تفسير هذه الاستعارة المحبطة بوصفها تقييمًا معياريًّا سابقًا لأوانه، تقييمًا يقدم من نقطة بداية جدل الكتاب لأن الحبس في الماضي الوسيط غدا مقبولًا، إن لم نقل مستحبًّا من قبل ملايين البشر الذين اعتادوه فاستمرأوه أسلوبًا لوجود اجتماعي وسياسي بعد أن تم “تدجينهم” عليه.
                                                                              عن صحيفة الوطن العمانية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق