الجمعة، 29 أغسطس 2014

مفارقات أنظمة التربية العربية -4

أ.د. محمد الدعمي
لقد كان الأدهى من بين معطيات “الإنتاج الواسع” السلبية لأنظمة التربية العربية قد تجسد في أنه لم يكن من المقبول، بالنسبة للشبيبة المتعلمة في جامعات هذه الدول، خاصة الغنية بالبترول، الخدمة في القطاع الحكومي العام بمناصب أدنى من منصب “مدير”، أي المدير الذي يخدم تحت إمرته عشرات المشتغلين المستوردين من الدولة الآسيوية أو الإفريقية. وقد أدركت الإدارات الجامعية في الدول الغربية الطلب المتصاعد القادم من دول الشرق الأوسط على هذا النوع من الشهادات “التجميلية” بسرعة، فغدا هذا الإدراك أساسًا للطريقة المثلى التي يتم بموجبها تدوير البترودولار عبر تبادلات الشبكة العالمية المعقدة التي يضبطها قانون العرض والطلب الأعمى.
وأسهمت الحصيلة النهائية للاندفاع نحو الشهادات الأكاديمية العليا، على نحو تراكمي، في اختلال التوازن في برامج تطوير الثروة البشرية في دول الشرق الأوسط، حيث ظهرت كتائب حملة الشهادات العليا (الماجستير والدكتوراة) مقابل تبلور فجوة نقص مخيفة في قوة العمل والكدح الأساس، ثم تبلورت ذات الفجوة فيما يسمى بكادر “الحلقة الوسطى” الضروري لتشغيل كل مشروع صناعي أو تجاري أو زراعي. من هنا برزت الحاجة لاستيراد العمالة الرخيصة بالجملة من قبل الدول الغنية بالبترول، من الأقاليم التي تعاني من فوائض نمو السكان للخدمة في كل شيء حرفيًّا، من تربية الأطفال إلى المشورة الاقتصادية، بل وحتى إلى الخدمة في القوات الوطنية المسلحة.
الطريف في الأمر هو حقيقة صادمة مفادها أنه، بالرغم من فائض شهادات الدكتوراة في هذه الدول، فإنها بقيت توظف الخبراء الأجانب (خاصة الأميركان والأوروبيين) لإدارة الجامعات والمراكز العلمية العديدة التي تفتتح هناك من آنٍ لآخر، ناهيك عن الظاهرة الغريبة المستجدة المتمثلة بافتتاح فروع للجامعات الأميركية والأوروبية الشهيرة في مدن مجاورة لصحارى الإقليم، إدانةً ضمنية للجامعات الوطنية، الحكومية، للأسف.
قاد قبول واستيعاب اندفاع العمالة الأجنبية إلى تهديد الهوية الوطنية للدول البترولية، بل حتى إلى تهديد اللغة العربية، وسيلة اتصال، لأنها تراجعت في التداول العام مقابل اندفاع الألسن الملتوية والملكونة للعمالة الأجنبية القادمة من دول الشرق الأقصى التي تتحدث بالإنجليزية، زيادة على ألسن بائعات الهوى الشقراوات القادمات من دول أوروبا الشرقية، الشيوعية سابقًا، إلى بعض مدننا في الإقليم لممارسة تجارتهن.
ومن ناحية أخرى، حل الدولار الأميركي محل العملة الوطنية في أجزاء واسعة من سوق التداول النقدي. واحدة من أكثر المشاكل المقلقة في أسواق الدول الغنية عبر الشرق الأوسط تتجسد في التغير الديموغرافي الذي برهن على أنه تغير لا يقاوم ولا يمكن عكس تياره لأن بعض حكومات هذه الدول غدت بدرجة من الاعتماد على العمالة الوافدة، أنها راحت تعجز عن ضبطها أو إيقافها، بالرغم من أن هذه العمالة أخذت تغذي أنماطًا سلوكية واجتماعية غريبة وممارسات جرمية غير متوقعة لم تكن معروفة بالنسبة للسكان المحليين من ذي قبل، ناهيك عن الإشكالات الثقافية واللغوية بالنسبة للأطفال العرب الذين ساء طالعهم لتعتني بهم مربيات من تايلاند أو الفلبين، فنزويلا أو سريلانكا.
وبسبب الأداء الضعيف لخريجي الجامعات، الذين يشكلون نموذجًا صارخًا للبطالة المقنعة، نظرًا لأنهم لا يصلحون لشيء عمليًّا، تصاعدت الحاجة لكورسات تقوية تكميلية من نوع “التدريب المستمر” In-service-training على نحو متسارع ومتصاعد. من هنا نبعت الحاجة لتأسيس معاهد ومراكز تدريب بقصد تفعيل هؤلاء البطالين وتجهيز الجهلة بالمتطلبات الدنيا لممارسة عملهم وتبرير مرتباتهم العالية. هذه الظاهرة تشكل اعترافًا ضمنيًّا بإخفاق رؤى ما يسمى بـ”دمقرطة” التعليم العالي في دول الإقليم وعلى هذا النحو الجارف.
تجسد المخرج النهائي لهذه العملية المتعامية المحمومة في استبدال الأمية بنوع من “الأمية المقنعة” المعبرة عمن لا فائدة ترتجى منهم. وثانية، لاحظ المصدرون ومديرو الشركات الأجنبية هذا الفشل، فصمموا صادراتهم من التقنيات المعقدة إلى الإقليم على نحو مخطط يضطر المستوردين المثقلين بالبترودولار، للحاجة إلى كورسات خاصة للمتدربين القادمين من الشرق الأوسط الذين لا يتمكنون من أداء عملهم من خلال قراءة المنشورات الخاصة بشرح تقنيات التشغيل، من نوع “know-how” أعلاه لأنهم بحاجة للعروض “العملية” العينية في دول المنشأ التي أنتجت فيها التجهيزات التقنية المقصودة بالأصل. وهكذا يكمل البترودولار دورته العالمية كي يستقر في بنوك أوروبا في نهاية المطاف: فشكرًا للمخزونات النفطية غير الناضبة التي أعادت توزيع مواردها النقدية تلقائيًّا وعلى نحو معولم غير مباشر، من كوريا واليابان إلى أوروبا وأميركا الشمالية. إنه عصر العولمة بحق، بفضل النفط العربي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق